حكاية ورواية

ما تاريخ الإحتفال بالمولد النبوي الشريف

كتب : مينا ناصف

 

(وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ .. وَفَـمُ الـزَمـانِ تَـبَـسُّـمٌ وَثَناءُ)؛ فعلى كثرة ما كتب من أشعار يظل ويبقى ويصبح ويكون هذا البيت الخالد لأمير الشعراء أحمد بك شوقي أيقونة شعرية تسافر عبر الزمن؛ تنتقل من جيل إلى جيل؛ حاملة معها رسالة كونية مغلفة بطقوس احتفالية مبهجة تنير درب الحضارة الإنسانية؛ والتي شهدت ميلاد واحتفاء وتطور مظاهر هذا الاحتفال عبر الزمن؛ فمن منا لا يعرف أن الفاطميين هم أول من احتفلوا بمولد النبي الشريف؛حيث نجد أغلب كتب التاريخ تؤكد على أن الاحتفال بدأ مع الفاطميين عند دخولهم مصر سنة 969م، وذلك لأن أغلب المؤرخين اتفقوا فيما بينهم أن المصريين لم يعرفوا الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في زمن الخلفاء الراشدين، ولا فيعصر الأمويين، ولا العباسيين ولاالطولونيين،ولا الإخشديين،وبدخولجوهر الصقلي مصر، وبناء القاهرة، وتشييد قصورها، وتدشين دروبها، وافتتاح حوانيتها، ومع استقبال المعز لدين الله الفاطمي؛ بدأ عهد جديد؛ عهدفريد في صفاته وطباعه؛ عهد له مزاج ومذاق خاص.

تطورت وتنوعت المظاهر الاجتماعية؛ وأخذت شكلا جديد اغني بالأعياد والاحتفالات، ليصبح هذا العهد فيما بعد علامة مهمة في التاريخ الإسلامي والإنساني على حد سواء،ورغم ما ذكرته إلا انه هناك مصادر أخرى تنفي ذلك؛ منها “أبو شامة”، والذي يذكر ان “الملاء” هو أوّل من اعتنى بشكل منظم للاحتفال؛ فيما يذكر الإمام “السيوطي؛أن أول من احتفل بالمولد بشكل كبير،ومنظم هو حاكم”أربيل” في شمال العراق الملك المظفر “أبو سعيد كوكبري”، وذكر “السيوطي”:أنه أحد الملوك الأمجاد والكبراء الأجواد، وكان له آثار حسنة، وهو الذي عمّر الجامع المظفر بسفح قاسيون.

ويقول “ابن كثير”:كان الملك “المظفر” يعمل المولد النبوي الشريفويحتفل به احتفالاً هائلاً، وكان مع ذلك شهمًا شجاعًا بطلاً عاقلاً عالمًا عادلاً.
وهذا ما أكده محمد خالد في كتابه “تاريخ الاحتفال بمولد النبي، ومظاهره حول العالم”؛ حيث يخبرنا أن الاحتفالات الشيعية بالمولد النبوي كانت هزيلة لا تتناسب مع جلال المناسبة، واستشهد على ذلك بما جاء في كتاب “الحياة الاجتماعية في العصر الفاطمي”؛ للدكتور عبد المنعم سلطان؛ ثم ينقل لنا الكاتب جانبا من تلك الاحتفالات من كتاب “وفيات الأعيان”؛ حيث قال: إن الشيخ “عمر الملاء” الذي توفي سنة 750 هـ سبق الملك المظفر في احتفاله بذكرى المولد النبوي الشريف؛ فكان أول من احتفل بالمولد احتفالاً كبيرا.

وعن المولد النبوي أشار المؤرخ المصري جمال بدوى في إحدى حواراته التلفزيونية ببرنامجه الرمضاني الشهر “قطايف” إلى ذكاء الفاطميين الذين درسوا نفسية الشعب المصري،وعلى حد تعبيره؛ فان الفاطميين (عرفوا إن المصريين بسطاء ودمهم خفيف بيحبوا السهر والمغنى والفرحة فحبوا يدخلولهم من الحتة دى).كما تخبرنا موسوعة ويكيبيديا وغيرها من المصادر إلى ان الفاطميين هم أول من احتفلوا بالمولد النبوي.

سوا حوار_احتفال المولد النبوي

*أول احتفال بالمولد النبوي:

ربما يكون هناك اختلاف بين المؤرخيين على تحديد أول من بدأ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، لكن ليس هناك اختلاف على أن الحاكم بأمر الله هو صاحب الفضل في ظهور ما يعرف حاليا بحلاوة المولد؛سواء العروسة أوالحصان، والتي تعددت فيهما الروايات؛ أهمها أن الحاكم بأمر الله كان متزوجا من سيدة جميلة، وطلب وقتها من صناع الحلوى أن يصنعوا تمثالا تكريما لها، ومن هنا جاءت فكرة عروسة المولد، وأن الحصان كان تكريمالجنوده الذين خاضوا معه الحروب وقتها، ولكن هناك رواية أخرى تقول أن الحاكم بأمر الله خرج يوم المولد النبوي ومعه زوجته، وكانت زوجته ترتدي الزي الأبيض، وعلى رأسها تاج من الياسمين، وعندما رآها صناع الحلوى رسموها على أحد القوالب، ورسم البعض الآخر الحاكم بأمر الله على حصانه.

قد يبدو هناك تشابه كبير بين الروايتيين؛ مما يؤكد صدقهما؛خاصة وان هناك رواية تفيدبانه قام بمنع إقامة الزينات واحتفالات الزواج إلا فى المولد النبوي؛ لذلك حرص كثير من الشباب، وعامة الناسعلى إتمام زواجهم في أيام المولد،ومثل هذا القرار أمر متوقع من الحاكم بأمر الله، والذي كانت تصرفاته غريبة جدا، وشهد عصره اضطرابات وقلاقل، ولم يكن على وئام مع شعبه،وفي هذه الأجواء ظهرت العروسة المصنوعة من الحلوى؛ لأنها كانت تعد بمثابة إعلان عن قرب موسم الزواج، وكان أهل العروسين يبدعون في صناعة الحلوى، والتي قال عنها الرحالة الإنجليزي “مارك جرش” الذي عاصرالمولد النبوي في مصر: بأنها عروس متألقة الألوان توضع في صفوف متراصة، وترتدي ثيابا شفافة كأنها عروس حقيقي.

ومن ناحية آخرى نجد مجموعة من المؤرخين أكدوا على أن مظاهر الاحتفال ما هي إلا ميراث مصري قديم يضرب بجذوره في عمق التاريخ المصري؛ الذي شهد اهتماما بإقامة احتفالات وطقوس وتقاليدفي أعياد الحصاد، وجلوس الملك على العرش، وعيد وفاء النيل، وغيرها من الطقوس والمراسم المصرية القديمة،وبالتالي ورث المصريون من أجدادهم الاهتمام بطقوس الاحتفالات الدينية.

الاحتفالات تاريخيا

*قصة “عروسة المولد”: 

لكن هناك من أرجع العروسة لعروسة النيل، والتي هي بالأساس أسطورة فرعونية شهيرة، وهناك من أشار إلى أصلها القبطي؛ خاصة وجود تماثيل من العاج والفخار بالمتحف القبطي، واحدة فيهم عبارة عن عروسة تشبه عروسة المولد بتاجها!.
بينما فريق آخر يرى أن أصل العروسة يعود إلى زمن الرومان، وأشار هذا الفريق إلى وجود تماثيل وأشكال مشابهة لعروسة المولد اسمها “التناجرا”،وهناك فريق أخير يرى أن أصلها فارسي، والفاطميين تأثروا بهم.
وعن الاحتفال نفسه نجد أنه واجه منع ومصادرة خاصة بعد الحكم الفاطمي،وتحديدا في العصر الأيوبيعلى يد “صلاح الدين الايوبي”! والذي منع الاحتفال بالمولد النبوي لانها مظاهر شيعية!فقرر إلغاء الاحتفال، والذي اقتصر على قراءة القرآن الكريم؛ فما كان من المصريين إلا انهم لم يحتفلوا بالمولد رسميا، ولكن ظلت المظاهر موجودة؛ حيث ظل المصريين يصنعوا الحلويات طوال السنة، وربطوها بالمناسبات السعيدة مثل الزواج.
بعد العصر الأيوبي جاء عصر المماليك، وكان زمنهم زمن حرب ودم وقتال؛ فتركوا المصريين يحتفلوا بالمولد كل سنة وشاركوهم الاحتفال، وكان يقام بالحوش السلطاني خيمة تسمى خيمة المولد، وكان السلطان “قايتباي”أول من يصنع الخيمة التي كان يتم فيها توزيع المشروبات، ويتبارى فيها المقرئيين فى تلاوة القرآن الكريم، وكان آخر مولد نبوي احتفل به المماليك قبل دخول العثمانيين مصر، وقت”قنصوه الغوري”،والذي أقام احتفالاكبيرا.
يذكر التاريخ ان “قنصوه” بعد دخلول العثمانيين مصر، وبعدما حارب “سليم” الأول “طومان باي” السلطان الأخير للمماليك، وهزمه أصبحت مصر عثمانية.
حالة الهزيمة منعت الشعب من الاحتفال بالمولد، والذي قام العثمانيين بإلغاءوه، وذلك كي يسيطروا على الدولة! ويمنعوا أي تجمعات قد تتسبب في حالة إنفلات أمني!.
استمر الوضع على هذا المنوال إلى أن تولي “خاير بك” الشهير “بخاين بك” ولاية مصر بشعبها الذي كان ضده، ولا يحبونه، ويقومون بالدعاء عليه في الشوارع؛فقام بإرجاع المولد كنوع من التقرب للشعب، وهو ما حدث بالفعل؛لكن لم ينىس المصريين جرائمه.

ما قام به “خاير” بك هو نفس ما فعله “نابليون” بعد دخول الحملة الفرنسية مصر، فقام بالصرف على الاحتفال، وذلك كي يتقرب للشعب، ويهادنه؛يقول في ذلك شيخنا المؤرخ “عبدالرحمن الجبرتي” الذي عاش في زمن الحملة الفرنسية على مصر: أن نابليون بونابرت اهتم بإقامة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وقامبارسال نفقات الاحتفالات، وقدرها 300 ريال فرنسي إلي منزل الشيخ البكري نقيب الأشراف في مصر بحي الأزبكية، وأرسلت أيضا إليه الطبول الضخمة والقناديل، وفي الليل أقيمت الألعاب النارية احتفالا بالمولد النبوي، وعاود نابليون الاحتفال به في العام التالي لاستمالة قلوب المصريين إلي الحملةالفرنسية وقوادها”.

*اهتمام الأسرة العلوية بالاحتفال بالمولد النبوي :

سوا حوار_احتفال المولد

وفي العصر الحديث اهتمت الأسرة العلوية بالمولد النبوي الشريف، والذي كان يقام فى بركة الأزبكية؛ حيث كانت تنصب السرادقات والتي ضمت الدراويش، وحلقات ذكر للمنشدين، وكانت تجوب الطرق الصوفية الشوارع بطقس احتفالي مهيب.
وعن طرق الاحتفال بالمولد النبوي الشريف نجدها تختلف من دولة إلى آخرى؛ ففي المملكة العربية السعودية نستمع إلىتلاوة القرآن والخطب الدينية، نشخص إلى الأضواء والأنوار؛ حيث تعلق 16 حزمة ضوئية ببرج الساعة بالحرم المكى.
نطير ونحلق فوق أم درمان بالسودان؛لنشاهد شوادر بيع السمسمية؛ومجالس الذكر والإنشاد الدينى،والتي تقدم فيهاأشهى وأشهر الأكلات ك”الثريد”؛ نذهب إلى الجزائر،لنسير في طرقها الصوفية؛ نمر من أمام البيوت؛ نشتم رائحةطهي النسوة”للرشتة”، “الشخشوخة”، “التريدة” لنعيش يوم مهيب نمر فيه على الزوايا والمساجد؛لنستمع إلى قراءة الهمزية للشيخ النبهاني، وهى قصيدة لمدح الرسول الكريم بجانب قراءة القرآن؛ ثم ننضمإلى مسيرة الذرى أو التبشير لنجوب معها الشوارع.

وأمام مساجد الأردن نشاهد الأنوار،ونستمع إلى حلقات الذكر والابتهالات ودروس السيرة النبوية؛فنتصدق ونقوم بالأعمال الخيرية، ونأكل حلوى “المشبك”، اما فينابلس بفلسطين نرفع الأعلام والراياتوالزينات، ونخرجإلى الشوارع مع فرق الإنشاد بزيهمالفلسطينيالمميز؛لنردد الأناشيد والابتهالات، ونوزع الحلوى على المارة والأطفال، وفي ماليزيا نعيش يوم مختلف؛ حيث تشهد الشوارع مهرجان ضخم، وفي تونس، وبالتحديد مدينة “القيروان”نأكل وجبه “عصيدة الزقوقو”؛أما في المغرب نحتفلب “الميلودية”،وهو الاسم الذي يطلق على الاحتفال هناك؛ نأكلالكسكسى الممزوج بالبرقوقوالمشمش والمكسرات، والدجاج المحمر بالدغيرة، وفي سوريا وقبل قدوم الاحتفال بيوم واحد نحتسي القهوة مع الملبّس الملفوف بورق السيلوفان والتل الأبيض؛ ثم ناكل”كشك الأمراء”، وفي “أربيل”بالعراق نضيء الشموع؛ لنستمع على نورها الخافتلتلاوة القرآن في ليبيا؛ حيث دروس الوعظ فى المساجد والمدائح الصفوية والحضرة التى تستخدم فيها الطبول والدفوف؛ ثم نأكل الحلوى ونحتسي الشاي ونشتم رائحة البخور، ونشاهد الآباء والأمهات يبتاعونشجرة “الخمسية”ويهادوا بعضهم البعض، ويشعلون شمعة الرسول الكريم؛ حيث يقف الصبيان أمام البيوت ممسكين بالقناديل المصنوعة من الخيش؛ بينما تحمل البنات الشموع أمام المنازل، مرددين التواشيح، التي نسمع مثيلاتها في عمان،والتي تحتفل بـ”الهوامة” فنتمايلأثناء ترديد الأناشيد الدينية، وفي الإمارات نصوم ونتلوا القرآن، وفي إندونيسيا وبمجالس العلم يتم تعظيم الرسول وتعليم السنة النبوية، و من طقوس ومظاهر الاحتفال هناك ختان الأطفال، وزيارة دور الأيتام وتوزيع الهدايا وعقد مسابقة لتلاوة القرآن؛ اما الاحتفال في مصر فله طابع خاص بل شديد الخصوصية والتكوين مولود من رحم حضارات متنوعة؛ ففي الأحياء الشعبية والمدن الريفية والصعيدية تقام الموالد والسرادقات،وتنطلق الطرق الصوفية من أمام أغلب مساجد أولياء الله الصالحين؛ كمسجد الإمام الحسين، والسيدة زينب رضي الله عنها.
وتضم الشوادر و السرادقات زوار المولد من مختلف قرى مصر؛ كما تضم الباعة الجائلين بجميع فئاتهم؛ إلى جانب ألعاب التصويب، وبائعي الحلوى والأطعمة، وسيركا بدائيا يضم بعض الألعاب البهلوانية، وركنا للمنشدين والمداحين، وهم فئة تخصصت في مدح الرسول (ص) إلى جانب حلقات الذكر، والمدائح النبوية.
للمولد النبوي الشريف طقوس احتفالية مهيبة نشاهدها عام بعد عام؛ ليؤكد للعالم أجمع انه رسالة حضارية إنسانيةتدل على تعانق الحضارات وتكاملها.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *