سامح نسيم يكتب :”الأزمة من غادة لـ”بغدودة”
“أجمل ما فى الصدفة أنها خالية من الأنتظار” هكذا أخبرنا محمود درويش الشاعر الفلسطينى ولم يخطأ، فالمجتمع المصرى لم يحظى بوقت انتظار بين مساء بدء بواقعة غادة والى والفنان الروسى ومساء أخر ينتهى بواقعة هروب لاعب منتخب المصارعة أحمد بغدودة. والحقيقة أن كلتا القضيتان حظيتا بمساحة من الجدل والنقاش المجتمعى كبيرة، ليس فقط لتزامن ظهورهما إعلامياً لكن للجرعة الكبيرة من الدراما التى صنعها ترافق القصتان فى المشهد معاً.
وبعيداً عن أنتظار ظهور كامل حقائق القضيتان فقد أنطلق الجميع فى أحاديث منصاتهم الإلكترونية فى التعليق على المشهد السينمائى وكأنها هوليود الشرق تعيد علينا مشاهد “رد قلبى” من جديد حيث المهمشين يفقدون فرصهم أمام المسيطرين اللذين يحصلون على كل شئ. وهذة المرة تختلف عن الستينات فالجمهور حاضر فى العرض الخاص بل ربما هو حاضر فى تنفيذ المونتاج بما يتاح له اليوم من وسائط للتفاعل على المنصات وكم هو حبنا للدراما نحن البشر!
فمن المؤكد أن بين كل مائة من المصريين اللذين تابعوا القضية بحماس ربما خمسة أو عشرة فقط زاروا يوماً أحد متاحف الفنون التشكيلية المصرية أو أهتموا بمتابعة لعبة المصارعة الرومانية. فما تم صناعته من خلال نقل تلك القصص لم يكن فقط أعلان عنها فى عملية إخبارية ولكنه كان نوع من بناء علاقة درامية بين المشاهد وأحداث وأبطال تلك القصص. وداخل تلك الدراما وجد المشاهدين الدافع للإشتباك معها. حيث يمكن أن يجد كل منهم موقع يمثله داخل المشهد الدرامى. وحول ذلك التفاعل البرئ تأتى الألعاب الإقتصادية والسياسية لأستغلال تلك الدراما لتحقيق منافع منها وهو ما يزيد حالة التفاعل أكثر وأكثر.
ولما لا يشارك الجميع، فإذا كان المثل الشعبى يعلن أن “العروسة للعريس” ويخرج المدعوين من المشهد فعلى العكس الدراما تعمل فى سرية تامة أن يجد المشاهد نفسه بطلاً للأحداث وإن لم يدرك ذلك.
لكن هل كان المجتمع والدولة حقيقتاً فى موقع المشاهد الذى يسقط مشكلاته وأرائه على مواقف الأبطال؟ أم أن قصتى البغدودة و غادة كان لنا نصيب فى صناعتها سواء أدراكنا أم لم ندرك ذلك!
فإن أنتقدنا اليوم هذا الخلل فى منظومة القيم، فأين كنا فى تأسيس تلك المنظومة؟ نعم أن منظومة القيم المجتمعية يؤسسها المجتمع و تؤثر فيها القرارات التربوية التى تتبناها الدولة على المدى الطويل.
فمثلا من يغضب اليوم لسرقة مجهود الموهوبين، لم يربى يوماً طفله على بذل المجهود بل طالبه دائما بالمركز المتقدم فى متفوقين المدرسة وفقدان أقل القليل من الدرجات. وهكذا تم التركيز على النتيجة دون العمل وبملاحظة عقلية بسيطة يدرك الطفل أن النتيجة يمكن الوصول لها بعديد من الطرق فقط واحدة منها هى بتحصيل العلم وحتى لو لم يقترن بتحويل ذلك العلم الى تطبيق أو ممارسة ثقافية فى حياته. ويستمر الخلل عندما نلقن أطفالنا دروساً عن الأمانة ثم نقف حزانى وغاضبين إن فشلوا بإستخدام الأمانة فى الوصول للدرجات التى يطمح لها الأب أو الأم. وتأتى رياح المادية الأستهلاكية لتعلن “ربط التعليم بسوق العمل” وهكذا تدخل الدولة على نفس الخط، نعم لا قيمة للتعليم سوا بخلق قيمة مضافة مالية. ويأتى أسلوب التحفيز السلبى ليعمق الخلل فلا داعى لإكتساب مهارات القراءة والكتابة ليتمكن الفرد من التعرف على الأداب والعلوم لكن للحصول على شهادة معتمدة تمكن طالبين الرزق من امتلاك رخصة قيادة أو امتلاك احد مسودات العمل.
وإذا كان مشهد “رد قلبى” 2023 أشتمل فى مظهره على المهمشين والمسيطرين لكن فى حقيقته الأثنان ينتمون لنفس المدرسة الفكرية، والفراق بينهم هو امتلاك المهمشين لحجة أخلاقية نابعة من الحاجة والضعف ليكونا زريعة لإنضمامهم لخلل القيم المجتمعية.
فالتفكير المتمحور حول المادية والفردية جعل من العائد المادى المحور والهدف. وتشفع فى هذا الحالة المادية و الرؤية الغاضبة لحالة القهر الذى يواجهه بطل الدراما. فلم تعد القيم الخلقية العليا سبب كافى للكفاح والتعب للفرد. فالفرد لم يجد تربية تعزز تلك القيم كقيم عليا تمثل أهدافاً لا وسائل، ولا مجتمع يعتبرها مصدر للتقدير أفراده. وتأتى رياح العولمة لتضيف نظرياتها العابرة للإنتماءات لتقلل من تلك القيم التى تربط الفرد ومجتمعه فما معنى الجنسية؟! وما سبب أن يقدم الفرد للمجتمع ما يمتلك؟!
وليس بعيد عن صناعة المشهد تقف التيارات الدينية فهى شريك أساسى فى عملية التربية الفردية والجماعية فالتعليم الدينى الذى حصر الفرد فى الشكليات والمظاهر بعيدا عن عمق الظاهرة الدينية و روحانيتها هو شريك أساسى فى أنشاء حالة من تسطيح التفكير الجمعى والفردى، فاليوم العفة مقياسها طول أوقصر فستان، والتفكير هو نسخ مساهمات القيادات الأصولية للعصر الحاضر، والعبادة بعدد الممارسات الطقسية، والروحانية هى نشوة عاطفية داخل الممارسات.
ويأتى الأعلام فقط فى ختام المشهد ليفجره بجحة كونه فقط الناقل ولا يرى مساهماته فى مزيد من صناعة المحتوى الفارغ ذو الضوضاء العالية والتى اصبح الدرس المستفاد منهاللأفراد كونوا أصحاب ضوضاء لتصلوا للمنفعة المادية.
فليس غريب بعد تحالف كل تلك العوامل أن تظهر المنفعة المادية للفرد كقيمة وحيدة حقيقية عبر عنها الفقراء فى اغانيهم الغير مطابقة لقواعد الموسيقى والمعروفة باسم المهرجانات بكم كبير من العنف الشعورى تجاة المجتمع والزمن والافراد واعلنوا فيها ان القيمة هى القوة والمال فقط
كل تلك العوامل جعلت مصر بين غادة والى والبغدودة وصنعت معهم وبهم ذلك المشهد الدرامى الواحد ذو اللوحتين.
نحتاج لتربية والدية وتعليم مدرسى وروحانية دينية واعلام تثقيفى لننتج فى النهاية منظومة قيم دون خلل نمارسها جميعاً فمن اليوم أذهب لتشجع فنان موهوب وتجمل بالعبارات النبيلة وتدين لتكتشف يد الله فى الحياة ومارس قيمك العليا من خير و حق وجمال و حرية وانتماء
لنصنع مستقبل نهتف ونفخر فيه مرة أخرى لبطلنا محمد رشوان لأنه أختار صواباً عندما انحاز للشرف رافضا ان يستغل اصابه خصمه فى نهائى الاولمبياد و نفخر بالناصر صلاح الدين لأنه انحاز للعفو والسلام بدلاً من الدماء والعنف فى استسلام القدس. يوم أن يعود مجتمعنا ليدرك أن فخرنا بهم لم يكن للميدالية الفضية الاوليمبية ولا للنصر فى معركة حطين والقدس عندها لن تكون مصر بين غادة وبغدودة.