الرئيسية سوا حوارحكاية ورواية

مجلس المعز لدين الله..أول مجالس الحوار بين الأديان بالقاهرة الفاطمية

ماركو الأمين:

الباحث في التراث العربي المسيحي " ماركو الأمين

“أمّا أوّل مجلس حضرته فرأيت مجلسًا قد جمع الفرق كلّها؛ المسلمين من أهل السّنة والبدعة، والكفّار من المجوس، والدّهرية، والزّنادقة، واليهود، والنّصارى،ولكلّ فرقةٍ رئيس يتكلّم على مذهبه، ويجادل عنه،ويتناظر بحجج العقل، وما يحتمله النّظر والقياس”، بتلك الكلمات سجل عمر أحمد بن محمد بن سجديّ، وهو رحالة مسلمٌ زار مدينة بغداد في القرن العاشر الميلادي، مّا رآه هناك من نقاشات دينيّة.
ولم يكن هذا الحال في بغداد فقط، كان هذا الزخم وتلك الحرية ما يميز تلك الفترة أي القرن العاشر الميلادي، لا يحتج أحد على أحد بكتابه إنما نتحاجج بالعقل والمنطق والقياس فقط.
في تلك الفترة من التاريخ برز العديد من أسماء المنطقيين والفلاسفة المتكلمين بالعربية مثل يحيى بن عدي وتلامذته مثل مسكويه وابو حيان التوحيدي والسجستاني .
كان الفلاسفة والمنطقيين واللاهوتيين والمتكلمة يتحاججون ويكتبون المؤلفات والمقالات في الرد على بعض وعلى اعتقادات فرقهم المختلفة وتناقشوا بحرية حول كل المسائل الخلافية بدءاً من وجوب وجود البارئ وكينونته إلى آخر المسائل الخلافية ما بين الأديان حول المسيح والإنجيل والقرآن والتوراة،فى ظل ذلك الزخم والتطور الحضاري الذي كان يعيشه الشرق كانت مصر على موعد جديد مع التاريخ.

*الحالة الدينية لمصر في عهد الدولة الفاطمية

شهدت مصر في آخر عصر دولة الإخشيديين اضطرابات اقتصادية واستغل الفاطميين وقاموا بعدة حملات لضم مصر إلى أن نجح اخيراً جوهر الصقلي قائد جيوش حملة الخليفة الفاطمي المعز لدين الله في الاستيلاء على مصر وبنى عاصمة جديدة وهي القاهرة المعزية، وبعد أن استقرَّت الأمور في مصر، قرَّر المعز نقل عاصمة دولته من المهديَّة بإفريقية إلى هذه المدينة الجديدة، وهكذا تأسَّست مدينة «القاهرة المعزِّيَّة» سنة 968م ووصل المعز مصر في سنة 972م، لتصبح مقرَّ حكم الفاطميين حتى نهاية دولتهم.

كان الفاطميون يدينون بالإسلام على المذهب الشيعي بخلاف أغلب المسلمين المصريين الذين كانوا يتبعون المذهب السني، لذا كفل وحرص الفاطميون منذ بداية عهدهم على كفالة التسامح والعيش المشترك وحرية الاعتقاد في ظل دولة يعيش بها أغلبية مسيحية تنقسم لمذهبين هما القبط وهم السواد الأعظم وخاصة في الصعيد وبعض مناطق ريف الدلتا والإسكندرية مع أقلية مذهبية صغيرة هم الخلقيدونيين أو المعروفين بلقب الملكانيين وأقلية مسلمة سنية معتبرة تسكن شمال مصر في الأغلب وأقلية يهودية تنقسم لمذهبين ايضاً القرائين والربانيين، وازدهر غير المسلمين في ظل سياسة التسامح والحرية التي كفلتها الدولة وتم توزيرهم وتوليتهم مثل أبو اليمن قزمان بن مينا القبطي والرئيس أبو العلاء فهد بن ابراهيم القبطي وعيسى بن نسطورس الملكاني و تاج الملك بهرام الأرمني ومن اليهود يعقوب بن كلس الذي أسلم على يدي المعز.

حينما حكم الفاطميون مصر كانت تعانى من الغلاء ونقص في المحاصيل واستمر الحال عدة سنوات حتى استقر الحال وقد كان في تلك الأيام بطريرك الأقباط هو مينا وكان مقيم في الريف في قرية محلة دانيال وكانت تقوم باحتياجاته امرأة من أغنى الأقباط ورؤسائهم وهي الرئيسة دينا البلقونيه (من بلقونه وحالياً هي قرية قونه في كفر الشيخ)، ولم ينزل أو يتواصل مع السلطة الجديدة وتوفي عام 975م وخلال شهور أجمع الأساقفة و الأراخنة (جمع ارخن وهي كلمة يونانية تعنى رأس و رئيس) على انتخاب تاجر سوري شيخ يدعى ابراهام بن زرعة ليصبح هو البطريرك الجديد وقد كان هذا التاجر السوري شيخاً متزناً باراً ومهيب الجانب ولحيته طويلة حتى صدره ولتميزه وأمانته أصبح صديقاً للسلطة الجديدة وبالأخص للمعز لدين الله، فيذكر كاتب سيرة أبراهام “وكان بينه وبين الملك المعز ورجال دولته جميل عظيم لأجل بضايعه التي كانت تتواصل وكان يعاملهم فيها.”

*اهتمام “المعز لدين الله والبطريرك أبراهام “بالحوار

ويدعى المعز لدين الله بإسم “معد أبو تميم بن المنصور بالله”، والذي ولد حوالي عام 931 م وتربى على درجة عالية من الثقافة والعلم والتهذيب بأخلاق الملوك في قصور اجداده الخلفاء المهدية، تولى الخلافة شاباً صغيراً في الثالث والعشرين ليصبح المعز لدين الله الخليفة الفاطمي العظيم الذي مد حدود سلطنة أجداده حتى الشام شرقاً ووطد حكمهم في المغرب. لكن لم تكن القوة والقيادة العسكرية هي كل ما يميز المعز، كما ذكرنا سابقاً كان المعز قد تربى على العلم وكان يتقن عدة لغات لكن الوضع لم يكن يمهله الوقت الكافي ليمارس دوره كراعي للثقافة والعلم والأدب بسبب الحروب والنزاعات مع القرامطة.
ورغم ذلك لم يهمل ابداً شغفه وحبه للجدال والنقاش الفلسفي والديني،كما ذكرت سيرة “أبراهام بن زرعة” البطريرك ولع المعز بالحوار بين الأديان.

*السماحة عنوان مجلس الحوار بعهد المعز 

“ما يجوز أن يغضب أحد في المجادلة بل ينبغي للمجادلين أن يقول كل واحد منهم ما عنده ويوضح حجته كيف شاء.”،بتلك العبارة عبر المعز عن سماحة نفسه وتشجيعه للحوار بين الأديان بتسامح ودون غضب أو عصبية، يسرد كاتب سيرة أبراهام استضافة المعز في مجلسه حلقة جدل بين اليهود تحت رعاية وزيره يعقوب بن كلس و المسيحيين القبط تحت رعاية صديقه أبراهام البطريرك .

ذكر كاتب السيرة أن المجلس في بدايته ساده الصمت حتى قطع المعز الصمت طالباً من البطريرك أن يشير لأسقفه ليتكلم، وبالفعل انطلق ساويروس للحديث مع اليهود والمسلمين بالمجلس .وقد كان طرفي الجدال هما موسى اليهودي و ساويروس بن المقفع أسقف الأشمونين بالمنيا، وساويروس هذا كان كاتباً ومن أرباب الدولة ثم سيم اسقفاً وكان متفلسفاً وعالماً فصيح طلق اللسان ومجادل عنيد فمما يذكر له أنه كان بمجلس قاضي القضاة في يوم جمعة ومر بهم كلب وكعادة أهل ذلك العصر أرادوا أن يتسلوا بمسائل جدلية فقال القاضي لساويروس في رأيك ما دين الكلب مسلم أو نصراني فرد عليه ساويروس بسرعة بديهة اسأله فيجيبك فتابع القاضي كيف للكلب أن يرد؟ فقال ساويروس اليوم جمعة والنصارى فيه يصومون ويفطرون ويشربون نبيذ أما المسلمين فلا يشربوا النبيذ ولا يصوموا ويأكلون اللحم، فضع نبيذ وقطعة لحم أمام الكلب أن شرب النبيذ فهو نصراني وأن أكل اللحم فهو مسلم، فضحك الحاضرون واعجبوا بسرعة بديهة وحجة ساويرس.

ومن ذكريات هذا المجلس ، نعرف مقدار التسامح والعيش المشترك وهامش الحرية الذي تميز به ذلك العصر، لعل مبدأ المعز يتمثل في  “ما يجوز أن يغضب أحد في المجادلة بل ينبغي للمجادلين أن يقول كل واحد منهم ما عنده ويوضح حجته كيف شاء.” .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *