باسم المصري يكتب:التغيرات المناخية والتعاليم المسيحية
باسم المصري يكتب:التغيرات المناخية والتعاليم المسيحية
فالداعين إلى لاهوت البيئة (أي رؤية الله في البيئة). يُلزم الإنسانية بحماية واحترام البيئة، ليس فقط بالحفاظ على الأنواع المفيدة، ولكن بكل شيء مخلوق على وجه الأرض، لأن الله وجد كل ما صنع أنه حسن، وذلك بمبدأ الحفاظ على التنوع والاختلاف، هناك خطر تجاهل أهمية الأنواع غير المفيدة للإنسان. فإذا أسقطنا هذه النظرة على تعليم الكتاب المقدس، نجد أن الكتاب يوصينا بالاهتمام بكل الخليقة. عندما تحدث يسوع عن أن كيف الله يهتم بالزنبقة في الحقل والغراب، كما نشير أن الفرائض التي مارسها يسوع نفسه أستخدم بها عناصر من البيئة فالمعمودية نزل إلى الماء، ونرى الروح القدس على هيئة حمامة. كذلك فريضة العشاء الرباني استخدم الخبز الذي هو مصنوع من القمح وعصير الكرمة الذي هو مصنوع من العنب. وإذا استطعنا الوصول لقدسية تلك الفرائض وممارستها فبالتالي نستطيع لمس قدسية المواد المستخدمة والتي هي من صنع الله وهي مُخْرج بيئي فبالتالي البيئة أيضًا مقدسة.
دور الكنيسة في الحفاظ على البيئة
وهذا يضع عاتق المسؤولية على الإنسان والكنيسة في الحفاظ على البيئة، فللكنيسة دور كبير وهام لتلعبه في الصراع للحفاظ على الأرض من الدمار البيئي. وهو ما نراه في أمر مباشر بسفر العدد “لا تدنسوا الأرض … لا تنجسو الأرض… يقول الله لأني أنا ساكن في وسطها”[i].إذ لا يعتبر تدمير البيئة خطر فقط على البشر بل خطيئة ضد الله الخالق. ومسؤولية الكنيسة تجاه البيئة تنبع من مسؤوليتها الإيمانية تجاه خليقة الله.
فقد أوكل الله للإنسان الحرث والزرع والحصاد بالأرض، كما أوكل له الاعتناء بالطيور والحيوانات وكل ما يدب على الأرض وما فوق الأرض وما في البحار، والوكالة تعني العناية والاهتمام وليس الاستغلال. فعلينا إدارة الموارد التي أعطانا الله بفطنة وبعناية فائقة لكي نحافظ عليها ونحميها. فقد أمر الله أن يتم زرع وحصد الحقول والكروم مدة ست سنوات، ثم تترك بلا زراعة في السنة السابعة حتى تستعيد التربة خصوبتها، وقصد الله هذا لكي ترتاح الأرض ولكي يضمن الاستمرار في توفير احتياج شعبه في المستقبل ، لهذا نرى أنه بدلاً من محاولة الحفاظ على الأرض لآلاف أو ملايين السنين في المستقبل، علينا أن نكون وكلاء أمناء عليها طالما بقيت، أي طالما تخدم خطة وهدف الله السامي.
ورغم أن تجاوب الكنائس مع أزمة البيئة كان بطيئاً إلى حد ما، إلا أن عدداً من أصوات القادة الكنسيين ارتفعت لتحذّر من الأخطار المحدقة بالطبيعة والأرض استنادًا إلى النص الكتابي، لقد وكَّل الله الإنسان “تدبير” شؤون الأرض باستخراج واستخدام طاقاتها، لكن الإنسان أساءَ إلى تدبير الله منذ أن أخطأ الإنسان وتجاوز طاعته للأوامر الإلهية، مما أدى إلى قطع علاقته مع الله وبالتالي مع محيطه الخارجي، مع النبات والحيوان والطبيعة والبيئة بشكلٍ عام التي هي صنيعة الله والتي رأى الله أنها حسن. وكنتيجة لهذا التعدّي نجد في الكتاب المقدّس كيف ثارت البيئة ضدَّ الإنسان منذ اللحظة الأولى، فصارت “تنبتُ له شوكاً وحسكاً” وصار يتعب في فلاحتها
بعدَ هذا الخلل البيئي، يتحدّث الكتاب المقدّس عن أرضٍ جديدة وعن خليقةٍ جديدة وعن بيئة جديدة وهذا حتماً يحتاج إلى إنسان جديد فهي دعوة إلى “توبة بيئية” إذا جاز التعبير. هذه التوبة البيئية هي الوسيلة الوحيدة التي ستجعل الإنسان يُعيد النظر في سلوكه البيئي. فالعلاقة بين الإنسان والبيئة علاقة تكاملية، فهي تحتاج إلى تدخّل الإنسان ليساعدها على النموّ بحسب جوهرها الذي أراده الله لها. والإنسان مدعو إلى حماية الطبيعة بتقنيّاته المتقدِّمة، وفي ذات الوقت تؤمِّن البيئة له ثمارها وتُطعِم شعوب العالم. والطبيعة تؤمِّن له أيضًا الصحّة وتؤثِّر عليها. وبالإضافة إلى كونها موردًا للإنسان، أرادَها الله له منزلاً. من هنا يجب أن يتعلَّم الإنسان التّوازُن بين التّعامُل مع البيئة كمورِد والتّعامل معها كمنزل. بالإضافة إلى الحاجة للغذاء والصحَّة والإيواء، يحتاج الإنسان إلى سلام يساهم فيه حسن إدارة الموارد البيئيَّة.عندما يحسن الإنسان إلى الطبيعة يشعر أنَّ الله يعتني به من خلالها.
يعتمد الإنسان على البيئة لتوفير متطلباته البيولوجيَّة والنفسيَّة والاجتماعية والثقافيَّة والاقتصادية والدينيَّة، ولكن استغلاله المُجحف للبيئة جعله يفقد السَّيطرة عليها وعلى حياته الاجتماعية، فمنذ أن بدأ بتدمير البيئة من الناحية الفيزيولوجية نَظرًا إليها على أنها ممتلكاته، وسلعة يمكن تداولها بيعاً وشراءً، والتربح منها ماديًا. ونسي أنه جزء من تلك البيئية ولا يمكنه العيش بدونها. فالكل جزء من خليقة الله لا تستقيم بمنأى عن الأخرى. الكلَّ في تكامُل، فالمسألة البيئيَّة عندما تُرافقها العقليَّة الاستهلاكية الداعية لسيادة المُلك واللّذّة، فيستهلك الإنسان موارد الأرض بإفراط، فبالتالي يستهلك حياته (البيئة الإنسانيَّة) أيضًا بغير انتظام.عندها يضع الإنسان نفسه مكان الله ويتحوَّل من مدبِّرٍ ومعاونٍ لله في الخلق إلى طاغٍ يُخضع الأرض لإرادته، مستغلاًّ إيّاها بصورة اعتباطية. وهذا يؤدّي إلى المَسِّ بقدرة البيئة واستقلاليتها عن الإنسان وباقي الكائنات الحيَّة.
النتائج الخطيرة المترَّتبة على إجحاف تعامل الإنسان مع المحيط البيئي شغل البشريّة بعلوم البيئة على كلّ المستويات العلميّة والمدنيّة والاجتماعيّة والسياسيّة. وأيضا علم اللاهوت الّذي شدّد على أنَّ التلوّث البيئي ليس مسألة علمية فحسب، بل أبرز مواقف الكتاب المقدّس والذي يعلم أن علاقة الإنسان بالمحيط البيئي تتوقف على علاقتهِ الصحيحة مع الله وأخيه الإنسان.
تستمعُ الكنيسة باهتمام بالغ لما يقوله العلم عن كيفية تجاوز هذه الأضرار البيئيّة التي تسبب بها الإنسان، وتطلبُ من المؤمنين أن يَتبَعوا الإرشادات البيئيّة التي يُقرّها العلماء لتجاوز الخطر البيئي عالمياً. وتشجِّع أيضًا كلّ الهيئات والمبادرات العاملة والمشاركة في النشاطات البيئيّة والتوعوية.وتُربي الكنيسة أولادها على الأخلاق البيئيّة ورفض مبدأي الاستهلاكية والاستغلال في التعامل مع موارد البيئة، وتنمي مبدأ تكامل العلاقة بين الإنسان والبيئيّة. وتوسّع الكنيسة مفهوم سلطة الإنسان على البيئة فتشمُل حمايتَه للموارد البيئيّة واستبدال السلوك النرجسي في استخدام الثروات بسلوكٍ يتوافق مع الأخلاقيات البيئيّة والضمير.
تنظر الكنيسة إذاً بجدّية كبيرة إلى علاقة الإنسان بالبيئة وإلى الدور الأساسي للإنسان في الحفاظ على البيئة، وتعتبر أيّ تعدٍّ عليها بمثابة خطيئة حقيقيّة لذلكَ تطلب من المؤمنين سلوكاً بيئياً يراعي الضمير والأخلاق البيئيّة التي سبقَ الحديث عنها.ويعلمنا الكتاب المقدس إن الطاعة لله تؤدي إلى إثمار الخليقة، وعدم الطاعة تؤدي إلى عزلتها وخرابها. كل الخليقة مترابطة مع بعضها بحكمة، ولكن الإنسان هو المسؤول عن الحفاظ على استمراريتها بالترابط الذي وضعه الله. إن الخليقة بحد ذاتها هي عمل مفيد قام به الله ويستدعي التعجب والاندهاش والتبصّر بالمعرفة. سيبقى الكون قابلاً لأن يكون جملة منتجة طالما أن الإنسان موجود ويؤمن بأن الخليقة يجب أن تُستمر.
وتضع الكنيسة رؤية جديدة لأخلاقيات تساهم في الحفاظ على الأرض، ومعالجة جذور المشكلة البيئية الكائنة في الإنسان من الجانب الإيماني الأخلاقي، وتعتمد هذه الأخلاقيات على المبادئ التالية:
_ التربية الكنسية يجب أن تتجاوز نطاق الأخلاق الفردية، إلى أخلاقيات جماعية، وذلك بالتشجيع على العمل الجماعي، وإبراز مسؤوليتنا الجماعية أمام الأجيال المقبلة، وتثمين قيمة “التكنولوجيا الإنسانية”. والمسؤولية الجماعية أمام الله خالق الكون.
_ خطورة تشيئ الإنسان والطبيعة أو تسليعهما، بل إعلان قيمتهما المقدسة لانهما خليقة إلهية. وتنبع قدسيتهما من روح الألوهة الذي خلقهما الله بها. مما يشعرهما بالمسؤولية تجاه كل الكائنات الحية في الطبيعة.
_ تنصح الكنيسة المسؤولين وصُناع القرار أن الأرض لن تبقى معطاءة إلى الأبد. وعليهم أن يحسبوا حساب محدودية النظام البيئي. حتى لا يأتي اليوم ولن يبق منها شيء.
_ تُعلم الكنيسة الإنسان أن الأرض هي ليست ملك له، بل هو موكـّل بالحفاظ عليها وحمايتها. وهو المسئول عن التوازن بين الأرض وسكانها من جميع الخلائق، فهي قيمة في ذاتها ولا يجوز استهلاكها واستهلاك مصادر الطبيعية بشكل عشوائي لأنها مكان لكل الكائنات الحية دون تفضيل نوع عن آخر. إنه من غير الأخلاقي وغير العادل أن تُستغل الأرض لأجل غيرها من المخلوقات ولا حتى الإنسان نفسه.
_ ثقافة التوعية البيئية هي الوقاية الفعالة من مرض دمار البيئة بكل أنواعه وأشكاله السمعي والبصري والشم والذوق، وفقدان الأنواع ودمار الغابات وانقراض الثروة الحيوانية والمائية وغيرها هي كلها أشكال من المشاكل البيئية، كلها جرائم ضد البيئة والإنسانية يقوم بها الإنسان.
_ قطع الله عهده مع نوح، في الحقيقة هو عهد مع كل الخليقة وليس مع الإنسان فقط. ويخبرنا الكتاب المقدس أن في المسيح: “كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان.
وقدّم المسيح ذاته عن كل الخليقة “لأن الخليقةِ نفسها أيضاً ستُعتقُ من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله يضعنا ذلك أمام واجب أخلاقي تجاه كل الخليقة، ويجب أن تتحول نظرتنا إلى الخليقة لتكون نظرة شمولية متكاملة. مقدسة لأنها مرآة تعكس صورة الله وقداسته وروعته في الخلق. وهو حاضر فيها لأن الكلمة في البدء أعطى الحياة للخليقة.
فيعلمنا الكتاب المقدس على لسان السيد المسيح: “ماذا يشبه ملكوت الله وبماذا أشبهه، يشبه حبة خردل أخذها إنسان وألقاها في بستانه فنمت وصارت شجرة كبيرة وتأوت طيور السماء في أغصانها”. ودور الكنيسة تعزيز ومساندة المبادرات والتوجهات الفردية والجماعية للحفاظ على الخليقة، وتلك المبادرات لا تأتي من الفراغ بل من الإيمان والرجاء الذي تعلمهما الكنيسة، فقوة الكنيسة والجماعة المسيحية المؤمنة لاتخاذ قرارات أخلاقية وتطبيقها بالفعل تأتي من الإيمان والرجاء. فتلوث الأرض هو عمل مشين وإجرامي ضد القداسة. وأي عمل يسبب ألماً وموتاً لجزء من الخليقة يسبب أيضاً ألماً لله ذاته لأنه خالق الكون.