ساحة حوار

باسم المصري يكتب :”المواطنة ..في البدء كانت مصر”(1)

إن قيم المواطنة قديمة كقدم الحضارة المصرية في عبق التاريخ، وأصيلة كأصالة إنسان مصري قديم ترك لنا حضارة على ضفاف النيل، تلك الحضارة التي سطرت اسم مصر بسطورٍ ذهبية في صفحات التاريخ، وشامخة كشموخ الأهرامات في سماء المحروسة، وعظيمة كعظمة المعابد بطيبة الأقصر المصونة.
مفهوم المواطنة الذي ارتبط بمصر كأول دولة تنعم بالاستقرار على جميع المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولما كانت المواطنة أمرًا هامًا وحيويًا للنمو بمختلف أوجهه. مدعومة بالحقوق والواجبات الفردية للمواطنين وتشجيع مشاركتهم الفعالة في شؤون البلاد. يتطلب هذا المفهوم أن يكون المواطنون مسؤولين عن تفعيل القوانين والقيم الأخلاقية والعيش بالتسامح والاحترام المتبادل بين الأفراد.
وشجعت حياة المواطنة في مصر القديمة على الشفافية والعدالة في المؤسسات العامة وتوفير فرص العمل والتعليم لجميع المواطنين بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية أو الثقافية، ولا يدعم ذلك إلا من خلال المواطنة المبنية على المجتمع، فالمجتمع هو الذي يعطي الفرد حقه وقت أن يُظلم والمجتمع هو الذي يوجه الحاكم ويدعمه ويعارضه في حالة أن يَظلِم، ومن هنا كانت عبقرية المصري القديم في أن يحيا مواطن في دولة مواطنة ينعم بكامل حقوقه ويساهم في نمو الديمقراطية والاستقرار في البلاد.
وقد تداعى إلى أذهننا من كتابات بعض المؤرخين والمثقفين المستشرقين أن مبادئ المواطنة حديثة النشأة، نَسبين ذلك إلى الدولة الحديثة خاصة فيما بعد الثورة الصناعية، وهو عكس للحقائق فمفهوم وقيم المواطنة قديمة قدم المجتمع المصري القديم، حيث كان الإنسان المصري القديم يعيش في مجتمع عادل، يعرف كل فرد فيه حاكماً كان أو محكوماً ما له وما عليه طبقاً لقانون العدالة لدى المصري القديم (ماعت)، فها هو خطاب العرش من الملك لكبير الوزراء:
” اعلم أن الوزارة مُرة واعلم أن الماء والهواء سيأتيان لي بكل ما تفعله في الخفاء، إياك وأن تكون ككبير الوزراء من قبلك ظلم أهله مع أنهم يستحقون وأعطى للغريب مع أنهم لا يستحقون، وعامل من تعرفه معاملة من لا تعرفه، والمقرب منك كالبعيد عنك، واعلم أن احترام الناس لك يأتي من إقامتك للعدل ليكن نبراسك هو ماعت”.
وها هي قصة الفلاح الفصيح “خوان إنبو” مثال حي على علو قيم المواطنة في مصر القديمة فبعد تعرضه للظلم من ” تحوتي نخت” والذي كان يعمل تحت إمارة حاجب الملك ويدعى “رينسي بن ميرو”، فقد اتهم تحوتي نخت الفلاح الفصيح جوراً بأن حماره أكل من زرع حاجب الملك، كل ذلك من أجل الاستيلاء على بضاعة الفلاح الفصيح، إلا أن الفلاح الفصيح استطاع الوصول إلى حاجب الملك وصاحب الزرع وقال له: “أقم العدل أمدحك ويمدحك المادحون.. أزل مُعاناتي فقد ثقلت واحمني فقد ضعت”، ولما وصل أمر الفلاح الفصيح للملك أمر بتجريد تحوتي نخت من ممتلكاته ومنحها له بالإضافة إلى حميره وبضاعته، فاستعاد مواطنته التي سُلبت منه عندما اغتصبت تجارته.

المواطنة بالعالم العربي

مفهوم المواطنة في العالم العربي هو مفهوم معقد ومتطور، وقد تطور عبر التاريخ ليعكس التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي حدثت في المنطقة، في العصور القديمة، كان مفهوم المواطنة يرتبط بالانتماء إلى مدينة أو بلدة معينة، وكان يمنح فقط لمجموعة محدودة من الأشخاص، مثل الرجال الأحرار الذين ولدوا في تلك المدينة أو البلدة، ومع استغراب مفهوم الديمقراطية، أصبح مفهوم المواطنة يرتبط بالمشاركة السياسية، وأصبح يُنظر إلى المواطن على أنه عضو كامل في المجتمع له حقوق ومسؤوليات متساوية، وقد تعزز ذلك المفهوم بظهور الدول القومية في القرن التاسع عشر، وأرطبت مفهوم المواطنة بالانتماء إلى دولة معينة، وأصبح المواطنون يتمتعون بحقوق ومسؤوليات متساوية بغض النظر عن الأصل الاجتماعي أو العرقي أو الديني، مع ظهور الحركات التحررية في الشرق الأوسط في القرن العشرين، أصبح مفهوم المواطنة مرتبطًا بالعدالة الاجتماعية والمساواة. وأصبح يُنظر إلى المواطنة على أنها علاقة بين الفرد والدولة تقوم على المساواة والمشاركة.
وتحولت إلى علاقة قانونية وسياسية بين الفرد والدولة. تَمنحه مجموعة من الحقوق والمسؤوليات، منها: الحق في المشاركة السياسية، مثل حق التصويت والترشح للانتخابات، الحق في المساواة أمام القانون، الحق في الحرية الشخصية، مثل حرية التعبير والتجمع، الحق في الحماية الاجتماعية، الالتزام بدفع الضرائب والخدمة العسكرية، تختلف معايير منح المواطنة في الدول العربية، ولكن بشكل عام تُمنح المواطنة عن طريق الولادة، أو التجنس، أو الزواج.
ومن التحديات التي تواجه مفهوم المواطنة في العالم العربي، التنوع الثقافي: يتميز المجتمع العربي بالتنوع الثقافي، مما يطرح تحديات جديدة لمفهوم المواطنة. حيث يتعين على الدول العربية إيجاد طرق لتعزيز الاندماج الاجتماعي بين المواطنين من مختلف الثقافات، الأنظمة الدكتاتورية: تسيطر الأنظمة الدكتاتورية على العديد من الدول العربية، مما يحد من حقوق المواطنين ومسؤولياتهم، النزاعات المسلحة: أدت النزاعات المسلحة في الشرق الأوسط إلى نزوح ملايين الأشخاص، مما يؤثر على مفهوم المواطنة.
وبالنظرة المتأنية لمستقبل مفهوم المواطنة في العالم العربي، يُتوقع أن يستمر في التطور حيث ستواجه الدول العربية تحديات جديدة، مثل العولمة وتغير المناخ، مما سيؤدي إلى تغييرات في مفهوم المواطنة، ومن المتوقع أن تصبح المواطنة أكثر عالمية، حيث ستصبح الدول العربية أكثر انفتاحًا على المهاجرين. كما من المتوقع أن تصبح المواطنة أكثر مشاركة، حيث سيُطلب من المواطنين أن يكونوا أكثر فاعلية في الحياة السياسية والاقتصادية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *