ساحة حوار

باسم المصري يكتب :”التنوع الثقافي ودعم التماسك الاجتماعي”

يؤكد اليونسكو على أن الثقافة ينبغي أن يُنظر إليها بوصفها مجمل السمات المميزة، الروحية والمادية والفكرية والعاطفية، التي يتصف بها مجتمع أو مجموعة اجتماعية، إلى جانب الفنون والآداب، وطرائق الحياة، وأساليب العيش معاً، ونظم القيم، والتقاليد، والمعتقدات؛ ويقصد بالتنوع الثقافي وجود العديد من الثقافات في مؤسسة معينة أو في مجتمع معين أو في العالم بأسره، ومن أبرز الأمثلة عليه وجود تجانس بين الثقافات المحلية مع الثقافات الوافدة، ويشير هذا التجانس لقابلية التعايش المشترك تحت مفهوم التنوع وليس الصدام، ويحترم التنوع الثقافي كل مظاهر الاختلاف في التقاليد واللباس واللغة، وتصور المتعايشين للأخلاق والعادات والتقاليد، وأشكال تفاعلهم مع البيئة المحيطة.
من التنوع الثقافي إلى التعددية الثقافية
لا بد في مجتمعاتنا التي تتزايد تنوعا يوماً بعد يوم، من ضمان التفاعل المنسجم والرغبة في العيش معاً فيما بين أفراد ومجموعات ذوي هويات ثقافية متعددة ومتنوعة ودينامية. فالسياسات التي تشجع على دمج ومشاركة كل المواطنين تضمن التماسك الاجتماعي وحيوية المجتمع المدني والسلام. وبهذا المعنى تكون التعددية الثقافية هي الرد السياسي على واقع التنوع الثقافي. كما أن التعددية الثقافية التي لا يمكن فصلها عن الإطار الديمقراطي، مؤاتيه للتبادل الثقافي ولازدهار القدرات الإبداعية التي تغذي الحياة السياسية.
ففعل الثقافة يلعب دورًا هامًا في تعزيز التنوع والتعددية. إذ تُساهم الثقافة في تعزيز التفاهم والتعايش السلمي بين الثقافات المختلفة، وتعمل على تحقيق التعايش في المجتمعات المتعددة الثقافات. ويتم ذلك من خلال تعزيز الحوار الثقافي المتبادل بين المجتمعات والتعرف على التراث الثقافي للآخرين، وتقدير التنوع واحترام الاختلافات الثقافية. تعتبر الثقافة الأداة الرئيسية لتعزيز التعاون والتضامن بين الأفراد وتعزيز الشمولية والعدالة الاجتماعية في مجتمع متعدد الثقافات.
التنوع الثقافي يشير إلى تعدد وتنوع الثقافات المختلفة داخل مجتمع واحد أو بين مجتمعات مختلفة. والتعددية الثقافية هي الحالة التي يتم فيها احترام وتقدير هذا التنوع الثقافي وتعايش المجتمعات المختلفة بصورة سلمية ومتفاعلة.
يمكن أن يكون التنوع والتعددية الثقافية لهما تأثيرات إيجابية كبيرة على المجتمعات، حيث يساهمان في فتح نوافذ للتفاهم والتعاون بين الثقافات المختلفة. توفر التعددية الثقافية فرصًا لتبادل المعرفة والتجارب والتعلم المتبادل بين الأفراد، مما يسهم في تثقيف المجتمع وتطويره.

التنوع الثقافي والهوية

علاوة على ذلك، فإن التنوع والتعددية الثقافية يعززان الابتكار والإبداع، حيث يتم تصوير مجموعة من الأفكار والخلفيات الثقافية المختلفة، مما يؤدي إلى تطوير حلول جديدة ومبتكرة للمشاكل المجتمعية والاقتصادية.
ومن الجانب الاجتماعي، يسهم التنوع الثقافي والتعددية في تعزيز التسامح واحترام الاختلافات بين الأفراد والثقافات، وتقدير الفرد كما هو على أساس ثقافته الخاصة. يمكن أن يؤدي ذلك إلى بناء مجتمعات متسامحة ومتفهمة تسعى إلى تعزيز العدالة والمساواة للجميع. بشكل عام، يمثل التنوع والتعددية الثقافية نقطة قوة للمجتمعات، حيث يتيح لها استيعاب واحتضان التنوع والمساهمة في تنميته وتطوره.
ومن إيجابيات التنوع الثقافي الاعتراف بشرعية جميع الثقافات الموجودة في المجتمع الواحد وإعطاء فرصة للعمل على تحقيق المساواة والحريات بين جميع الثقافات الموجودة عند سنِّ القوانين والتشريعات على سبيل المثال. وهناك علاقة تلازم بين التنوع الثقافي والهوية الثقافية، حيث إن الهوية لا يمكن أن تكتمل إلا بوجود الثقافة، وتتميز الهوية الثقافية بأنها تمتلك القدرة على فهم التنوع الثقافي لجميع الشعوب.
ونشهد في الوقت الراهن انفجاراً في التنوع الثقافي والتعددية الثقافية، كما صارت المجتمعات الآن مزيجاً من الأجناس تنتمي لثقافات وبيئات متنوعة، وهذا التنوع الاجتماعي يشكل ثراء ثقافيًا للمجتمع، يمنحه قوة وخصوصية وحيوية. كما أن العالم يعيش اليوم صراعات وحروب ومواجهات صدامية بين الدول، ويمر بأزمات عدة، غالبيتُها نشأت من التطرف الديني، ومن التمييز العرقي، ومن دعوات الكراهية والعنصرية، وأصبح الأفراد في بعض المجتمعات يعيشون داخل مجموعات منفصلة تتميز بجهل الواحدة للأخرى وبالأفكار النمطية المتبادلة، ونتج عن العولمة زيادة في نقاط التفاعل والاحتكاك بين الثقافات أدت إلى توترات وصدامات ومطالبات تتعلق بالهوية، مما جعل أهمية الحوار بين الثقافات والأديان تزداد، باعتباره أداة تساهم في نشر الوعي السليم للحد من تداعيات هذه الصراعات والتوترات التي تهدد استقرار المجتمعات البشرية، وتؤجج الأزمات الإقليمية والدولية وتخِل بالسلام العالمي، وتؤثر سلباً على تقدم الشعوب.

رسالة الأديان لقبول التنوع الثقافي

ومما يميز شرقنا الأوسط بنزعته الدينية نجد حرص الأديان على التنوع الثقافي ففي التوراة بسفر التكوين. يروي سفر التكوين قصة خلق العالم وتاريخ البشرية المبكرة. يتضمن هذا السرد شخصيات من خلفيات ثقافية مختلفة، بما في ذلك إبراهيم، وهو رجل من بلاد ما بين النهرين، وموسى، وهو يهودي من مصر. يوضح سفر التكوين أن الله يعمل من خلال الأشخاص من جميع الثقافات لإنجاز مشيئته.
مثال آخر على التنوع الثقافي في الكتاب المقدس هو سفر أعمال الرسل. يروي سفر أعمال الرسل قصة انتشار المسيحية في العالم القديم. يتضمن هذا السرد شخصيات من خلفيات ثقافية مختلفة، مثل تعدد الجنسيات التي تلقت معجزة العنصرة بأعمال الرسل 2، وكذلك بولس، وهو يهودي من طرسوس، وفيليبس، وهو يوناني من السامرة. يوضح سفر أعمال الرسل أن المسيحية هي رسالة للجميع، بغض النظر عن ثقافتهم أو عرقهم.
يؤكد الكتاب المقدس على أهمية التنوع الثقافي. يعلم الكتاب المقدس أن الله يهتم بالأشخاص من جميع الثقافات وأن المسيحية هي رسالة للجميع.
ولما كان الإسلام يعترف بالاختلاف، فإنه يقرّ بالتنوع الثقافي الناتج عنه، لأنه ظاهرة كونية وحالة طبيعية اتسمت بها حياة المجتمعات الإنسانية على مرّ عصور التاريخ، مصداقا لقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (سورة الروم 22).
وجدير بالإشارة في هذا الصدد، أن «الإعلان الإسلامي حول التنوع الثقافي» أكد على وظائف هذا التنوع الذي وصفه البعض بـالتنوع الخلاق، باعتباره يخلق الفرص لتنمية العلاقات بين الشعوب والأمم، ولإرساء القواعد الراسخة للتعاون الدولي مع الاحترام للخصوصيات الروحية والثقافية والحضارية، مصداقاً لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (سورة الحجرات 13).
فضلاً عن ذلك، فإن التنوع الثقافي يعزز القيم الإنسانية المشتركة المستمدة من الديانات السماوية والحضارات المتعاقبة، والقوانين الدولية، من ميثاق الأمم المتحدة، إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومن قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة في شأن الحوار بين الثقافات والتحالف بين الحضارات، إلى الإعلانات الصادرة عن المنظمات الدولية والإقليمية.
فهو تراث مشترك للبشرية، يتيح للمرء أن ينفتح على الآخرين وأن يبتكر أفكاراً جديدة، ويتيح فرصة ثمينة لتحقيق السلام والتنمية المستدامة، وهذا راجع بالأساس إلى الدور الذي يمكن أن تؤديه الثقافة في تشجيع الحوار بين مختلف الأديان، والتقاليد الروحية والإنسانية في عالم يتزايد فيه ربط الصراعات بالانتماء الديني، حيث تنطوي الثقافة على منافع مهمة من حيث تحقيق التماسك الاجتماعي.

التنوع الثقافي ودعم التماسك الاجتماعي

فثقافة التماسك الاجتماعي هي مجموعة من المعتقدات والممارسات التي تعزز التضامن والوحدة بين أفراد المجتمع. وتستند هذه الثقافة إلى قيم مثل التضامن والمشاركة والاحترام المتبادل، ويلعب التنوع الثقافي دورًا مهمًا في تعزيز التماسك الاجتماعي، من خلال توفير إطار ثقافي مشترك للأفراد يستند إلى مجموعة من القيم والمعايير المشتركة. ويساعد قبول التنوع الثقافي على بناء روابط اجتماعية بين الأفراد، وتعزيز الشعور بالانتماء إلى مجتمع واحد.
فالقيم الدينية والأخلاقية قد تلعب دورًا مهمًا في تعزيز التماسك الاجتماعي، من خلال التأكيد على أهمية التضامن والمشاركة والاحترام المتبادل، كذلك المهرجانات والمناسبات الاجتماعية تساعد على تعزيز التماسك الاجتماعي، من خلال توفير فرص للأفراد للتواصل وتبادل القيم والثقافات، والمؤسسات الاجتماعية مثل الأسرة والمدرسة والمجتمع المدني، لهم دورًا مهمًا في تعزيز التماسك الاجتماعي، من خلال توفير فرص للأفراد للتعلم والمشاركة والمساهمة في المجتمع.
فتتمتع ثقافة التماسك الاجتماعي بأهمية كبيرة للمجتمعات، حيث أنها تساعد على تعزيز الاستقرار الاجتماعي، من خلال الحد من التوترات والنزاعات بين أفراد المجتمع، وتحقيق التنمية الاجتماعية من خلال توفير بيئة اجتماعية داعمة للأفراد والمجتمعات، و توطين الشعور بالانتماء لدى الأفراد من خلال توفير إطار ثقافي مشترك يشعرون بالانتماء إليه.
فيمكن تعزيز ثقافة التماسك الاجتماعي من خلال اتخاذ مجموعة من الإجراءات، مثل “التعليم وذلك بتدريس قيم التضامن والمشاركة والاحترام المتبادل في المدارس والجامعات، والمشاركة المجتمعية بإشراك الأفراد في الأنشطة والفعاليات الاجتماعية، ودعم التواصل بين الثقافات من خلال نشر الوعي بالثقافات المختلفة وتعزيز الاحترام المتبادل بين الأفراد من مختلف الثقافات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *