ساحة حوار

سامح نسيم يكتب: التعليم وتشكيل العقل والفكر والوجدان

مع تطور الإنسان وحضارته وجد في التعليم طريقاً لاستمرار تطوره وتغيير حياته للأفضل، فقد وجد في التعليم طريقا لإيصال المعارف والخبرات المكتسبة من جيل لجيل، لتستمر عملية التطور الإنساني والحضاري والتي تنعكس على حياة الإنسان بالتغيير للأفضل.
ولهذا فقد تطورت عملية التعليم بشكل تلقائي مع تطور كم وحجم العلم والمعارف المطلوب تناقلها وصقلها لدى البشر، من التعليم بالمعايشة إلى التعليم الأبوي لنقل الحرف وإيجاد مساعدين من الأبناء في مهنة الأب، إلى فصول المتخصصين والتي تُعد موظفي الدولة والكهنة، حتى بدء تعليم المدارس وانتشر وتنوع كل هذا ليمتلك المجتمع طريقة لخلق أشخاص قادرين على أداء الأدوار النافعة من خلال الأدوات والمهارات التي يتعلمونها.

وفى الوجه الآخر لعملة التعليم، كان التعلم حيث وجد الإنسان منفعة شخصية له في تطور ورقى ذاته من خلال تفاعل ذاته وعقله مع المعارف، فكان التعليم وسيلة للتحضر والترقي وأصبح من الواضح أن التعليم لا يقف فقط عند تطوير مهارات الإنسان لكنه يمكن أن يكون أحد وسائل التأكيد على إنسانية هذا الإنسان ودعم ارتقائه الفكري وتطوره ولهذا يشيع الربط بين انتشار العنف في مجتمعات وبين المستوى التعليمي وكفاءة التعليم بها.

وتتكون لنا صدمة من اقتران حالة التعليم مع حالة العنف، فهذا ارتقاء وإنسانية بينما هذا تدنى وهمجية، وواقع الأمر يكمن في حقيقة العملية التعليمية، فالعلم لا يقدم مجرد لكنه يقدم من خلال منظومة فلسفية، تربوية، علمية، إدارية تسمى المنظومة التعليمية، وعندما تكون تلك المنظومة سطحية فأنها تقدم فقط المعلومات ويقف الفرد داخلها كمستودع لحفظ المعلومات، وإن كان ماهرا فأنه سيعمل على تطبيق تلك المعلومات في مجال العمل، بينما تبقى تلك المعارف بعيده عن وجدانه ولا تساهم في تكوين فكره ،ويمكننا أن نقول أنه يتعامل مع المعرفة بعقله الجسدي وليس بضميره الإنساني وهكذا يمكن أن نرى خبير معرفي ذو ضمير همجي.

وهنا ننظر لمنظومة تعليمية مثالية نرى فيها المعرفة والتعلم يعملون على مستويات متعددة في تشكيل ضمير الإنسان قبل عقله وتساهم إيجابيا في تكوين إنسان مسالم يبنى السلام،
ففي الوقت الذي تقدم المنظومة التعليمية المعارف العلمية والأدبية والمهارات في طبقتها السطحية، ويجتهد الجميع في متابعة تقدم عملية اكتساب تلك المعارف والتأكد من ذلك، بل ويزيد اجتهاد الواعون بأن يحاولوا أكثر وأكثر وأن تكون تلك المعارف والمهارات المكتسبة قابلة للتطبيق من خلال مكتسبيها من التلاميذ والطلاب، ومرتبطة باحتياجات المجتمع وسوق العمل لتعظيم الفائدة الاقتصادية للفرد والمجتمع.

ومن ثم يجب أن تقدم المنظومة مجموعة القواعد وإجراءات التعلم التي أيضا تساهم في عمليات التعلم الغير مباشر، فإن قيم السلام واحترام الآخر، والالتزام والاجتهاد والنزاهة وغيرها ترسخ من خلال المواد المتواجدة في المعارف التعليمية، وكيفية تقديم تلك المعارف، وهنا تعمل المنظومة في طبقة أكثر عمقا على تشكيل الفكر الإنساني، وهنا يجب أن تكون المنظومة واعية لمجريات الأحداث لتقدم القضايا الشائكة والغامضة للفكر، وأن يكون لها دور رائد في مواجهة تلك الأفكار ولا تتجاهلها، فهذا لقاء يناقش المواطنة وذلك يبحث في خطابات الكراهية حرية التعبير، وهذا يتكلم على الإنسانية العالمية والهوية الوطنية، وذلك يوم يناقش فيه المعلم أزمة النزاهة في مواجهة الفساد مع أطفال فصله، وهنا نرى أهمية المنظومة التعليمية في توفير خط دفاع استباقي لنشأة خطابات الكراهية وزعزعة السلام المجتمعي بل ونشأة كل الانحرافات السلوكية.

وفى عملية التكوين الإنساني يجب أن نشير لخطوة أعمق اخرى يجب أن تمارس المنظومة التعليمية دور أكبر وأعمق لترسخ فعلا مجتمع وإنسان يعيش السلام ويواجه خطابات الكراهية. وهي الطبقة التي تمس وجدان الإنسان وتساهم في تشكيل ضميره فمع الرسائل المباشرة في التعليم وحتى لو تم تناولها بالأساليب التفاعلية المباشرة والغير مباشرة، يبقى مستوى أعمق من التفاعل البشرى يتم سواء انتبهنا أو لم ننتبه، يمكن أن يعصف بكل المجهود المبذول في الطبقتين السابقتين.

فالحياة المعاشه داخل المنظومة التعليمية يقف الطفل والشاب داخلها يلتقط الرسائل الغير مباشرة قبل المباشرة بشكل لا إرادي ينبع من كون الإنسان كائن يؤثر ويتأثر بطبيعة كونه كائن اجتماعي، وهنا يجب أن تمثل المنظومة حقيقتا من تقدم من معرفة وفكري ليعيش الطفل حالة نمو للضمير على تلك المعارف وفى هذه اللحظة تمتلك المنظومة التعليمية الطبقات الثلاثة.

وفى هذا المستوى ترقد الرسائل القاتلة التي تنسف كل مجهودات الطبقات السابقة ويظهر هذا التعليم الذي يكسب المعارف لكنه أيضا ينتج عنه العنف والجهل.

فنرى منظومة تعليمية في الطبقة المعرفية تناقش التاريخ لكنها تقدم معارف ناقصة لا تقدم تاريخ الجميع ولا يقف الجميع في التاريخ موقف متساوي فهذا تعليم على التمييز، وفى الطبقة الفكرية فقد منح البعض صفة المواطنة لوجودهم في التاريخ والبعض نزعها عنهم بتجاهلهم، وفى الطبقة الضميرية فقط رسخ للغربة لدى المهمشين وللصفوية لدى المذكورين، فلا نتعجب من خطاب كراهية ناتج من متعلم فقط تعلم أنه هو الوطن وفي وجدانه خوف من هذا الآخر الذي يرى فيه سرقه للموطن والتاريخ.

ونرى منظومة تقدم من خلال دروس اللغة طبقة معرفية من المهارات اللغوية ومعها بعض الموضوعات التي تترك في يد المعلم، إما أن يستخدم خلالها أدوات لإكساب المهارات ويقف عن الطبقة المعرفية، أو يتقدم ليوضح الفكرة، فإذا وُجد لقاء عن مهارات الحوار فيكتسب فكر الطالب وجود الحوار كأداة تواصل مع الآخرين لكنه في الطبقة الوجدانية يخسر الحوار ولا يؤمن به عندما يرى غيابه في تعامله مع معلمه ونظرائه.

وعلى هذا المنوال سنجد أن المنظومة التعليمية في طبقاتها الفكرية والوجدانية تمتاز بكثير من التشويهات السلوكية والإجرائية، التي تحمل للطلاب إما فكرا مشوها في أساسه أو أنها تحمل لهم ما يشوه وجدانهم من خلال تلك الأساليب والإجراءات، والتي يقع بعضها داخل المنظومة أو من خلال مساهمات المعلمين الغير واعيين بأثر دورهم.

ولهذا يجب أن تتسم المنظومة كاملة بالمراجعة والعناية في تدبير أحوالها ومعطياتها لضمان الطبقات الإنسانية الثلاثة من المعرفة والفكر والوجدان، لنرى منظومة تخرج لنا بشرا قبل أن تنتج لنا معلم، أو محاسب، أو حرفي.

سامح نسيم جيد
استشارى أنشطة السلام والتدريب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *