“الفوانيس وموائد الرحمن”..شهر رمضان رسالة إنسانية نتوارثها عبر الأجيال

مينا ناصف

نعيش هذه الأيام في ظل رحاب شهر من أجمل شهور السنة الهجرية؛ بل هو الشهر الأهم على الإطلاق؛ ففيه نزل القرآن الكريم؛ إنه شهر رمضان المعظم؛ شهر له خصوصية شديدة جدا؛ فهو شهر العبادة؛ شهر الصوم والصلاة؛ شهر الكرم والجود، وكأن كل شيء فيه موجود. تتنوع مظاهر الاحتفال في شهر رمضان؛ فما بين الزينة ومحلات الكنافة والقطائف، والصبية الذين يلهون بالفوانيس في ربوع مصر، وموائد الرحمن، ومدفع الإفطار تتجمع الأسر المصرية كل هذا إلى جانب الصلوات والتواشيح والابتهالات التي يصاحبها صوت طبلة المسحراتي.

طقوس أحتفالية كثيرة لم تتغير ولم تتبدل رغم مرور الزمن خاصة في قاهرة المعز؛ فمصر حضورها الطاغي وأجوائها الرمضانية ؛ فمن منا لم يلهو بالفانوس، والذي يعتبر سفير الماضي والحاضر؛ فهو موروث شعبي ورثناها عن أجدادنا، وكما تبدل وتغير وتطور شكله عبر الزمن صاحب هذا التطور العديد من الحكايات.

يذكر المؤرخ الشهير تقي الدين المقريزي في كتابه “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار”؛ أن الفانوس كان موجود في مصر من قبل دخول الإسلام، وتحديدا في احتفالات أقباط مصر بعيد الميلاد؛ يقول المقريزي في كتابه: “وأدركنا الميلاد بالقاهرة ومصر وكان موسما جليلا، تباع فيه الشموع المزهرة بالأصباغ المليحة والتماثيل البديعة بأموال لا تنحصر، فلا يبقى أحد من الناس أعلاهم وأدناهم حتى يشتري منهم لأولاده وأهله. وكانوا يسمونها الفوانيس ويعلقونها في الأسواق والحوانيت، ويتنافس الناس في المغالاة في أسعارها”.

ومع بداية العصر الفاطمي ازدهرت صناعة الفوانيس، وارتبطت بالحضارة الإسلامية، وكانت مهمة الفانوس الأساسية الإضاءة ليلا للذهاب إلى المساجد أو لزيارة الأصدقاء والأقارب، وتوجد حكاية يرجع تاريخها للعصر الفاطمي، وكان الخليفة المعز لدين الله الفاطمي على مشارف مدينة القاهرة، وخرج المصريين لاستقباله، وهم ممسكين بالفوانيس الملونة، وهناك قصة آخرى مرتبطة أيضا بالدولة الفاطمية، وقتها كان الخليفة يخرج للشوارع ليلة الرؤية ليستطلع هلال شهر رمضان، وكان الناس والأطفال يخرجون معه ممسكين الفوانيس لإنارة الطريق، وأثناء رحلتهم يمرون ببوابات القاهرة القديمة؛ مثل باب النصر وباب الفتوح إلى ان يصلوا لجبل المقطم، وهناك يستطلعون الهلال، ومن وقتها ولحد وقتنا هذا ارتبط الفانوس بشهر رمضان الكريم، ومن الحكايات الغريبة التي ارتبطت بالفوانيس؛ ان الخليفة الحاكم بأمر الله حرم خروج النساء من البيوت طيلة العام، باستثناء شهر رمضان، والذي تم فيه استعمال الفوانيس على يد غلام كان يقود السيدات في الطريق إلى ان يصلوا للمسجد، وذلك كي يلاحظ المارة وجود السيدات في الطريق؛ فيفسحوا لهن المجال للمرور.

الفانوس وتراث شهر رمضان

علاوة على ذلك أصدر الخليفة الحاكم بأمر الله أمر بتركيب الفوانيس في كل شارع وحارة وزقاق، وأمام البيوت والحوانيت، وقام بتغريم أي شخص يخالف امره لانه الحاكم بأمره، وللفوانيس قاموسها اللغوي الخاص بها فبعض الكلمات من اللغة الشركسية والبعض الآخر من اللغة المصرية القديمة مثل (وحوي يا وحوي) وأشهر من استخدم هذه الكلمة الشاعر حسين حلمى المانسترلى، وكتب تحفته الغنائية الخالدة (وحوي يا وحوي اياحه) ورغم ان الأغنية حديثة إلا أن أصل الكلمة بحسب الكتير من المصادر يرجع لمدينة طيبة، وقت ما كانت الملكة “إياح حتب” تقوم بتشجيع زوجها وابنها الأكبر على النضال ضد الهكسوس الغزاة ، ورغم انهم ماتوا إلا ان الملكة (إياح حتب) شجعت ابنها الصغير أحمس على استكمال مسيرة أبيه وأخيه وبسبب تشجيعها انتصر أحمس، و حرر أرض مصر، وقتها خرج الشعب المصري لاستقبال أحمس والملكة (إياح حتب) وكانت المصابيح في إيديهم ويرددوا “وحوي يا وحوي” والتي تعني أهلا أهلا، وإياحه”، وهي اسم التدليل للملكة إياح حتب، وبذلك يكون مجمل الكلمة “أهلا إياحة”. وتوجد رواية آخرى تؤكد على ان كلمة “وحوي” أصلها قبطي، وتعني اقتربوا، وكلمة “إياحة” تعني هلال الشهر، والمقصود من الجملة “اقتربوا لرؤية هلال الشهر”، وأيا كان معني ومصدر الكلمة؛ الأهم هو ان اللهجة العامية المصرية قادرة على استيعاب أي كلمة؛ بل وإعادة صياغتها وطرحها للتداول اليومي وفق هويتنا المصرية العظيمة، والتي حددت لنفسها مجموعة من الأكلات رغم وجودها طوال السنة إلا ان هذه الأكلات تفرض حضورها في شهر رمضان، ومنها الكنافة، والتي تعتبر أشهر أكلة رمضانية. ارتبطت الكنافة بمؤسس الدولة الأموية الخليفة معاوية بن أبي سفيان، وكانت تصنع له خصيصا ليأكلها كطعام للسحور؛ فتمنع عنه الجوع الذي كان يشعر به أثناء الصيام، ولذلك ارتبط اسمها باسمه، وسميت “كنافة معاوية” توجد رواية آخرى يرجع تاريخها لشهر رمضان، وتحديدا عندما تصادف دخول الخليفة المعز لدين الله الفاطمي مدينة القاهرة، فاستقبله الأهالي بالهدايا والحلويات، ومن بينها الكنافة بالمكسّرات، ومن يومها وتعتبر الكنافة أشهر أكلة ارتبطت بشهر رمضان، وعن أصل التسمية يذكر بعض الباحثين أن أصل كلمة كنافة (تشنافة) وهي كلمة شركسية؛ اما القطايف فلا تختلف كثيرا عن الكنافة، وهي من أبرز الأكلات التي تظهر في شهر رمضان، وتوجد مصادر كثيرة تخبرنا بان أول من تناول القطائف هو الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان .

وعن تاريخ القطائف توجد مصادر تؤكد على انها ظهرت قبل الكنافة، ويعود تاريخها إلى أواخر العهد الأموي، وأول العصر العباسي، وتوجد مصادر آخرى تخبرنها بأنها تعود للعصر الفاطمي وعن أسمها قيل انها كانت تقدم في صحن ليقطفها الضيوف، ومن هنا سميت القطائف، وهناك روايات تفيد بانها سميت بهذا الاسم لوجود تشابه بين ملمسها وملمس القطيفة، وتعني فطيرة القطف؛ إلى ان اصبح اسمها في اللهجة العامية “قطايف”؛ ومن الأكلات التي ارتبطت بشهر رمضان “الياميش”، وأكد الكثير من علماء على ان تناول الياميش يرجع للقدماء المصريين، وقتها كانت تصنع ‏الحلوى‏ ‏على‏ ‏شكل‏ ‏الإله‏ (‏بس‏) ومع دخول ‏الفاطميين لمصر اسُتخدمت الفواكة المجففة؛ كالمشمش، والتين، والمكسرات؛ كأبرز أنواع “الياميش” الرمضاني، وتقول الكتير من المصادر ان الخلفاء في العصر الفاطمي كانوا يقومون بتوزيع “الياميش” على الفقراء طوال شهر رمضان، ومن أشهر أسواق “الياميش” في مصر منطقة قوصون التي أسسها الأمير سيف الدين قوصون في شارع باب النصر، وبعدها انتقل سوق “الياميش” إلى منطقة الجمالية وتحديدا وكالة مطبخ العمل بالتمبكشية ثم انتقل لبولاق أبو العلا، ومن بعدها رحل لروض فرج، ومن بعدها ذهب لسوق السكرية ويعتبر (قمر الدين) من أهم أنواع “الياميش”، ويقال أن أصل (قمر الدين) سوري، ويعتقد ان الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك كان يأمر بتوزيع المشروب على الناس احتفالاً بشهر رمضان، وعن أصل كلمة “ياميش” توجد مصادر تقول انها كلمة تركية وتعني “الفواكة المجففة”، أما‏ ‏كلمة‏ “خشاف” فاختلف على أصلها العلماء؛ ففي اللغة التركية تعني “منقوع التمر”، وفي الفارسية تعني “الشراب اللذيذ” ، والخشف فى اللغة العربية يعني “الثمار الجافة أو اليابسة”، ورغم الاختلاف على أصل التسمية إلا أن الجميع اتفق على حلاوة الطعم، وارتفاع قيمته الغذائية فالفواكة المجففة غنية بالعديد من الفيتامينات.

*قصة أول مدفع في رمضان

والآن “مدفع رمضان اضرب” ، ولمدفع الإفطار تاريخ طويل من القصص الغريبة أولى هذه القصص يؤكد على ان الأمر حدث بالمصادفة، وقتها كان السلطان المملوكى (خشقدم) أمر بتجريب مدفع جديد وتصادف إطلاق المدفع وقت المغرب في أول أيام رمضان، واعتقد الناس وقتها؛ أن السلطان تعمد إطلاق المدفع لتنبيه الصائمين لموعد الفطار؛ فخرجت جموع الأهالى، واتجهوا لقصر السلطان ليشكروه.

توجد راوية آخرى تقول ان بعض الجنود فى عهد الخديوى إسماعيل كانوا يقومون بتنظيف أحد المدافع، وانطلقت من المدفع قذيفة دوت فى سماء القاهرة، وتصادف أن وقت إنطلاق القذيفة وقت أذان المغرب فى أول يوم رمضان؛ فاعتقد الناس أن الحكومة تنبههم لموعد الفطار، وهذه الرواية تؤكد على ان بنت الخديو إسماعيل الأميرة فاطمة، والتي كان لقبها الحاجة فاطمة، والتي عُرف عنها حبها الشديد للخير والعلم لدرجة انها تبرعت بكامل أراضيها لإنشاء الجامعة الأهلية (جامعة القاهرة)، وبكل مجوهراتها الثمينة للإنفاق علي تكاليف البناء عندما علمت بما جرى اعجبتها الفكرة؛ فأصدرت فرمان يفيد باستخدام المدفع عند الفطار والإمساك، واتربط المدفع باسمها، وأصبح اسمه مدفع الأميرة فاطمة، وليصل صوت المدفع لأكبر مساحة ممكنة كان لابد من وضعه في مكان مرتفع؛ فاستقروا وقتها على وضعه فوق جبل المقطم، ومع بداية شهر رمضان كان يتم الاحتفال بخروجه من القلعة محمولا على عربية بعجلات ضخمة جدا، ومع أول أيام العيد يرجع بيته مرة آخرى، واستمر مدفع رمضان يضرب ويضرب إلى منتصف القرن ال 19، وتحديداً فى عهد الوالى “عباس حلمى الأول” ؛ وقتها كان ينطلق مدفعين، الأول من القلعة، والثانى من سراى عباس باشا الأول بالعباسية، واستمرت هذه العادة إلى ان تقدمت هيئة الآثار المصرية في بداية التسعينيات بطلب لوزارة الداخلية يفيد بوقف إطلاق المدفع من القلعة؛ خوفا على الآثار الموجودة في هذه المنطقة؛ خاصة وان منطقة القلعة تعتبر متحف مفتوح للآثار الإسلامية؛ فالمنطقة تضم قلعة صلاح الدين الأيوبي، والجامع المرمري الذي بناه محمد علي الكبير؛ علاوة على جامعي السلطان حسن، والرفاعي، ومتاحف القلعة الأربعة، وحذرت هيئة الآثار من أن إطلاق المدفع يؤثر على العمر الافتراضي للآثار بسبب الاهتزازات الناجمة عن إطلاقه، وبالفعل تم التفكير في نقله لمكان بديل، واستقر الرأي على جبل المقطم مرة أخرى، وتم نقل مدفعين من المدافع الثلاثة الباقية من أسرة محمد علي، وتم الإبقاء على المدفع الثالث كمعلم سياحي في ساحة متحف الشرطة بقلعة صلاح الدين، وإلى يومنا هذا يسمع المصريين صوت المدفع عبر الراديو أو عبر شاشات التلفاز ويتعتبر مدفع رمضان من التقاليد الرمضانية في مصر المحروسة.

*تاريخ موائد الرحمن وعمل الخير 

ولانه شهر التقرب إلى الله؛ شهر الكرم والجود؛ فمع حلول شهر رمضان الكريم يتسابق الجميع لفعل الخير، وكانت موائد الرحمن من طرق التقرب للمولى عز وجل.

يقال إن الوالي أحمد بن طولون هو أول من أقام “موائد الرحمن” فى مصر، ولكن التاريخ الحقيقي لموائد الرحمن يعود إلى ﻋﻬﺪ ﺍلنبي ﻣﺤﻤﺪ(ص)، عندما ﺃﻗﺎﻡ ﻣﺎﺋﺪﺓ ﻷﻫﻞ ﺍﻟﻄﺎﺋﻒ ﻋﻨﺪ ﺯﻳﺎﺭﺗﻬﻢ ﻟﻪ فى ﺍﻟﺸﻬﺮ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ، وكان يرسل وجبتي ﺍﻹﻓﻄﺎﺭ ﻭﺍﻟﺴﺤﻮﺭ ﻣﻊ سيدنا ﺑﻼﻝ ﺑﻦ ﺭﺑﺎﺡ، ومن بعده قام الخليفة ﻋﻤﺮ ﺑﻦ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ بتأسيس ‏”ﺩﺍﺭ ﺍﻟﻀﻴﺎﻓﺔ” ﻟﻴﻔﻄﺮ ﺑﻬﺎ ﺍﻟﺼﺎﺋﻤﻮﻥ، وعن أصل التسمية تشير المصادر لشخص اسمه عبد الرحمن كان هذا الشخص يحب ﻋﻤﻞ ﺍﻟﺨﻴﺮ ومساعدة ﺍﻟبسطاء، ﻭﻛﺎﻥ عبد الرحمن يقوم ﺑﻌﻤﻞ الموائد ﺧﺎﺭﺝ منزله، وكانت الموائد مخصصة ﻟﻠﻔﻘﺮﺍﺀ، ﻭﻋﺎﺑﺮي ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ ولذلك سميت باسمه، وعن تاريخ موائد الرحمن تخبرنا الكثير من المصادر ان الخليفة ﻫﺎﺭﻭﻥ ﺍﻟﺮﺷﻴﺪ ببغداﺩ؛ ﻛﺎﻥ ﻳﻘﻴﻢ ﻣﻮﺍﺋﺪ ﺍﻹﻓﻄﺎﺭ فى ﺣﺪﺍﺋﻖ ﻗﺼﺮﻩ، ﻭﻛﺎﻥ يتجول ﻣﺘﻨﻜﺮاً ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﻮﺍﺋﺪ، وﻳﺴﺄﻝ ﺍﻟﺼﺎﺋﻤﻴﻦ ﻋﻦ ﺭﺃﻳﻬﻢ فى ﺍﻟﻄﻌﺎﻡ ﻭﺃﻧﻮﺍﻋﻪ ﻭﻣﺪﻯ ﻛﻔﺎﻳﺘﻪ، وكان يتأكد من ذلك بنفسه، وتوجد رواية تفيد بان الفقيه الثري الليث بن سعد، كان يقيم ﻣﻮﺍﺋﺪ ﺍﻟﺮﺣﻤﻦ، ﻭﻳﻘﺪﻡ ﻓﻴﻬﺎ ﻟﻠﺼﺎﺋﻤﻴﻦ ﺃﺷﻬﻰ المأكولات وﺍﻷﻃﻌﻤﺔ، ﺧﺎﺻﺔً ﺍﻟﻬﺮﻳﺴﺔ، واللي عرفت باسمه “ﻫﺮﻳﺴﺔ ﺍﻟﻠﻴﺚ”، وفي عصر الدولة الفاطمية أقام الفاطميون ﻣﻮﺍﺋﺪ ﺧﺎﺻﺔ ﻟﻠﺼﺎﺋﻤﻴﻦ ﺗﺤﺖ اﺳﻢ “ﺩﺍﺭ ﺍﻟﻔﻄﺮﺓ”، والتي سميت بعد ذلك بموائد ﺍﻟﺮﺣﻤﻦ؛ أما العصر المملوكي فاشتهر بتوسعة ﺍﻟﺤﻜﺎﻡ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻔﻘﺮﺍﺀ ﻭﺍﻟﻤﺤﺘﺎﺟﻴﻦ، وكان الملك الظاهر بيبرس يوزيع الدقيق والسكر والمكسرات ولحم الضأن على الفقراء، وفي العصر الحديث كان الملك فاروق يقيم طول شهر رمضان مائدة رحمن كبيرة في ﺳﺎﺣﺔ ﻗﺼﺮ ﻋﺎﺑﺪﻳﻦ، وكان يفطر مع عموم الشعب من ﺍﻟﻌﻤﺎﻝ ﻭﺍﻟﻔﻼﺣﻴﻦ؛ ثم يستمعوا لآﻳﺎﺕ ﺍﻟﺬﻛﺮ ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ ﻣﻦ ﻛﺒﺎﺭ المقرئين، وكان يقام مائدة رحمن كبيرة جدا بجوار ﺍﻟﺠﺎﻣﻊ ﺍﻷﺯﻫﺮ، وكانت تكفي ما يقرب ال 4000 ﺻﺎﺋﻢ، والآن وعلى دقات طبلة المسحراتي نستعد للسحور ونحن نسمعه يردد (اصحى يا نايم وحد الدايم رمضان كريم – السحور يا عباد الله – يا نايم وحد الله) المسحراتي هو الشخص الذي يمسك طبلته ويسير بين البيوت قبيل الفجر بساعة أو ساعتين؛ ليدق دقات بسيطة ويردد النداء الأشهر: “اصحى يا نايم وحد الدايم رمضان كريم” وارتبط المسحراتي بشهر رمضان، ورغم كل المتغيرات المجتمعية والتكنولوجية إلا أن هذه المهنة مازالت مستمرة حتى يومنا هذا ولكن من أين بدأت القصة ؟ يوجد أكثر من مصدر يقول ان الصحابي الجيل بلال بن رباح، وهو أول مؤذّن في الإسلام، ومعه ابن أم مكتوم؛ هما اللذان توليا مهمّة إيقاظ النّاس للسّحور، وكان النبي (ص) يقول: “إن بلالًا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم”، وفي العصر العباسي كان المسحراتي ينشد شعر شعبي اسمه “القوما”، وأجمع الرُّواه على أنُّ هذا اللون من الشّعر الشعبي كُتب خصيصا لدعوة الناس للسحور في شهر رمضان، وكلمة “القوما” جاءت من قولة المسحراتي “قوما نسحر قوما”، ويتقال ان هناك رجلا ولقبة أبو نقطة كان يجيد هذا النّظم في سحور رمضان، وكان الخليفة “الناصر” معجب به جدا، فجعل له مرتب سنوي وعندما مات أبو نقطة، كان غُلامه يجيد فن القوما، فأراد الغلام تنبيه الخليفة إلى موت المسحراتي أبو نقطة، فجمع بعض الغلمان، وفي أول ليلة رمضان وقف بهم خارج قصر الخلافة وغنى بصوت حزين:
يا سَيّد السّادات لكْ بالكَرَمْ عاداتْ
أنا بُنَيّ ابن نُقطة تعيشْ أبي قَدْ ماتْ
فأعجب به الخليفة، وجعل له ضغف ما كان لأبوه، وفي عصر الدولة الفاطمية، وتحديدا أيام الحاكم بأمر الله ازدهرت مهنة المسحراتي؛ خاصة وانه أصدر أمره بأن الناس تخلد إلى النوم مبكرا؛ تحديدا بعد صلاة التراويح؛ وقتها كان الجنود يمرون على البيوت ويدقون الأبواب بالعصي لايقاظ الناس للسحور، وبعده ذلك عين رجل عُرف بالمسحراتي، وكان هذا الرجل يدق على الأبواب مرددا: “يا أهل الله قوموا تسحروا”، وعن بداية إيقاع طبلة المسحراتي كان في أم الدنيا مصر، ولكن ماذا عن الدول الآخرى؟ في بعض البلدان العربيّة كاليمن والمغرب كانوا يدقون الأبواب بالنبابيت؛ أما أهل الشّام كانوا يطوفون على البيوت ويعزفون على العيدان والطّنابير، وينشدوا أناشيد خاصّة برمضان؛ نعود مرة آخرى لمصر قلب العالم ورئته النابضة كان “المسحراتية” في مصر يطفون الشوارع والمدن والقرى، يرددوا الأناشيد الدينية، وكان المسحراتي يقوم بتلحين العبارات التي يقولها بواسطة ضربات فنّية يوجّهها لطبلته كل ذلك دون أي مقابل، ولكن مع أول يوم العيد يمر المسحراتي على البيوت ماسكا طبلته؛ فيعطيه الناس المال والهدايا والحلويّات، وفي عصرنا الحديث قام الشاعر الكبير فؤاد حداد بكتابة قصائد سماها المسحراتي، ولحنها الملحن العبقري سيد مكاوي وقُدمت الحلقات في الإذاعة المصرية

لشهر رمضان الكريم خصوصية شديدة جدا؛ فهو نموذج حي على تعانق الحضارات، والقيم الإنسانية.