باسم المصري يكتب لـ”سوا حوار”:الايمان المسيحي والتغيرات المناخية
باسم المصري يكتب:الايمان المسيحي والتغيرات المناخية
“الحَمْدُ للهِ…الحي الحكيم،القادر العليم،الجَوَّاد الحليم،الرَّحمن الرَّحيم…مُنشئ كلّ شئٍ ومُبْدِيه،ومُمِيتُ كُلِّ حَيٍّ ومُحْيِيه،مُبْدِع المكان ومُوجِدَه،ومُحْدِث الزَّمان ومُنفِده،الَّذي لا تحوِيه الأمكنة والأقطار،ولا يُغيِّره اللَّيل والنَّهار.ولا تُبْلِيه الأزمنة والأدهار..”،هذه الكلمات من نصوص بولص الراهب أسقف صيد الأنطاكي من التراث العربي المسيحي، التي تتحدث عن الخالق وابداعه في الخليقة والبيئة التي تحيط بنا .
المشكلة البيئية أو التغيّر المناخي هما مصطلح الساحة التنموية الآن، تزايد بشكل واضح الاهتمام العالمي بها، حيث أصبحت مشكلة تواجه الإنسانية في الزمن الحاضر. فهي تمس “حياة الإنسان وكل إنسان وكل الإنسان”، على وجه الأرض بغض النظر عن التنوع الاجتماعي أو الجغرافي أو النوعي أو الاقتصادي أو الديني الذي ينتمي إليها. فهي مشكلة مرتبطة بوجود الإنسان وعلاقته بكل الخليقة.
مصطلح “البيئة” Ecology مُشتق من الكلمة اليونانية Oikos والتي تعني “الموطن” أو “البيت” (عالم الحيوان الألماني “إرنست هايكل”1866)، أما مصطلح Environment بمعنى محيط أي كل ما يحيط بالإنسان من ظروف طبيعية وغير طبيعية، وهي اشتقاق من الكلمة Enviros اللاتينية تعني الوسط المحيط بالإنسان، ولا نستطيع أن نستثني أي شيء حي أو غير حي من البيئة الطبيعية، أما الإنسان فهو جزء من الخليقة، وهو يشترك في العمليات البيوكيميائية والفيزيولوجية التي تحصل في الكون كباقي الكائنات الحية.
فالبيئة هي كليهما فإنها البيت الكبير الذي يحوي كل شيء حي وغير حي، بما فيها الإنسان ولكن هو ساكن في هذا البيت الّذي هو البيئة وليسَ مالكاً له. هذا هو الموقف اللاهوتي الأوّل للمسيحيّة: بأنّ الله هو خالق الطبيعة وهو مالكها والإنسان مجرّد ساكن فيها. “في الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ. وَرَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدّاً. تكوين 1: 1و 31 ” وهو افتتاحية إصحاح الخلق في الكتاب المقدس وختامه أن الله رأى كُل ما عمل انه حسن بما فيها الأنسان كجزء من الخليقة وليس مُتسيد عليها. لأن الله هو فقط الخالق وهو السيد على كل الخليقة.
ولطالما كانت الخليقة درباً إلى الله، فكانت هي الوحي الطبيعي الأول الذي ترك الله فيها بصمات الألوهة حتى نعرفه. يمكننا التأمُّل بعظمة الخالق وجماله من خلال عظمة المخلوقات وجمالها، ولكنَّ الطبيعة تعكس أيضًا حكمته. فمن خلال شرائعها التي يفهمها العقل، تسمح البيئة للإنسان بأن يستشفَّ شيئًا من الرّوح الخالق وتدعو إلى الرَّهبة. “أَنْتَ هُوَ الرَّبُّ وَحْدَكَ. أَنْتَ صَنَعْتَ السَّمَاوَاتِ وَسَمَاءَ السَّمَاوَاتِ وَكُلَّ جُنْدِهَا وَالأَرْضَ وَكُلَّ مَا عَلَيْهَا وَالْبِحَارَ وَكُلَّ مَا فِيهَا وَأَنْتَ تُحْيِيهَا كُلَّهَا. وَجُنْدُ السَّمَاءِ لَكَ يَسْجُدُ.” نحميا9: 6
ومع ذلك، كلّ ما هو موجود في الطبيعة هو علامة لحضور الله، فهي حاضرة في الله وهو حاضرٌ فيها، وقد أعطى الله الإنسان البيئة من حوله هِبَة منه، وذلك لفرادة الإنسان في الخليقة من حيث قدرته على الاعتناء بها ومنها كانت على عاتق الإنسان مسئولية الاعتناء بها والحفاظ على نظامها واستثمارها والاستفادة منها بصورة لا تنتهك قدسيتها ولا نظامها وإلا يعتبر ذلك إساءة نحو الخالق نفسه، لأن الخليقة هي مرآة تَجَلي الله، من هنا يجب على الإنسان أن يُحافظ على هذه المرآة ناصعة صافية. فتتشارك الخليقة في تسبيح وتمجيد الخالق. فالكون يعمل في تناغم وانسجام.
الله هو خالق العالم. لقد جَلْبه إلى حيز الوجود مع جميع عملياته المترابطة، المتحركة وغير الحية، مما يعني أنه حتى أصغر حصاة هي عمل تصميمه، وقد خلق الإنسان على “صورته ومثاله”. وأعطاه سلطاناً على الخليقة. وكان من المفترض أن يمارس هذا السلطان من خلال حرية مطلقة منحها الله إياها، ولكنه حدد معالمها له. صحيح إنه أُعطيا حرية مطلقة لكنه أخطآ في تطبيقها. لقد أُعطي الإنسان الحرية ليس فقط من أجل أن يعيشها لذاته بل من أجل الخليقة كلها أيضاً.
فقد أعطى الله الوكالة للإنسان ليتسلط على “سمك البحر وطير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدبّ على الأرض، ولكن ليس للسيطرة وهيمنة، بل بالرعاية والحفاظ عليها، فهناك فرق بين السلطان والسيطرة. ففساد الإنسان تسبب في تآكل الطبيعة. وأنانيه حوّلته لمحورة كل شيء في الكون حول شخصه، ونسي أن هناك خَالقًا لهذا الكون قادر أن يتحكم بمسار وتطورات الكون.
لقد اعتبر الإنسان أن مصادر الحياة في الكون من أرض ومياه وغيرها هي ملكه ويحق له أن يتحكم بها كما يشاء بأنانية مطلقة ودون مسؤولية. عندما يصل الإنسان إلى مرحلة التمييز بين السلطة والتسلط عندها يستطيع أن يتذكر بأن كل المخلوقات على الأرض لها علاقة متشابكة ومُكمـّلة بعضها لبعض ولا يمكن أن تكون أدوات يستخدمها لراحته ورفاهيته وخدمته. بل كل الخليقة بما فيها الإنسان وحدة متكاملة. إذا يُبيّن لنا الكتاب المقدس أن كل شيء في الكون من محتوى وسكان وطبيعة ومناخ هو من صنع الله وحده. وبحكمة من الله، نجد أن كل شيء يقع في مكانه المناسب وبانتظام ونظام مدروس فريد من نوعه دون خلل أو تعارض.
فدور الله في مسيرة الكون، وحده القادر على تغيير شكل الكون وليس بفعل الإنسان. لا يمكن للتكنولوجيا وحدها أن تجد العلاج للمشكلة البيئية، إذا لم يعاد تصحيح أخلاقيات ومعتقدات وتصرفات الناس تجاه البيئة. إن السبب الوحيد الذي أدى إلى أن يقوم الإنسان بقطع أشجار الغابات، واستهلاك المياه الجوفية بغزارة، وإطلاق غازات كيميائية بكثافة في الجو، إنما هو أن الإنسان نسي أن الطبيعة شيء مقدس عند الله لأنها صنيعته وهو رأى أن كل شيء حسن. ولا يرى الإنسان في العالم إلا مكاسب مادية وأرباح وخدمات تعتبر أهم من الالتزام بالأخلاق المسيحية ومنها مسؤوليته عن الطبيعة.
وختامًا الأرض غير متجدده بطبيعتها، ورغم ثرواتها وغنها وعطائها الغير محدود إلا أنها محدودة في ذاتها، واستهلاك واستغلال الإنسان لها دون حساب يعرض كل المخلوقات للخطر، وهذا مسئولية الإنسان لوحده لأنه هو الذي أُكلت له هذه المهمة حماية الأرض والحفاظ عليها، فالعمل الجماعي أمر مهم وأساسي للحفاظ على “حُسنِ” الأرض، الكون كله يعيش على رجاء الخلاص من الصعوبات والآلام واليأس. وفي النهاية سيكون هناك حتماً أرض جديدة هي ملكوت السماوات حيث تجانس الخليقة مع الله سيكتمل.